عقد المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)، ندوة سياسية بعنوان “مسارات السيادة الوطنية: تشاد بين تعزيز الاستقلال ومواجهة التحديات الأمنية“، وذلك ضمن سلسلة الندوات الشهرية التي ينظمها المركز. انعقدت الندوة بتاريخ 21 ديسمبر 2024 عبر تقنية الزووم واستمرت لمدة ساعتين، بمشاركة نخبة من الأكاديميين والخبراء السياسيين.
افتتاحية الندوة
افتُتحت الندوة بكلمة ترحيبية من الأستاذ إيهاب العاشق، مدير الندوة والباحث في المركز ، حيث شكر الحضور وأوضح الأهمية الكبيرة للموضوع المطروح في ظل التحولات السياسية والأمنية التي تشهدها القارة الإفريقية. أشار إلى قرار تشاد بإنهاء اتفاقيات الدفاع المشتركة مع فرنسا كخطوة مفصلية تعكس طموح تعزيز السيادة الوطنية، لكنه أثار تساؤلات حول تداعيات هذه الخطوة على الأمن والاستقرار الداخلي والإقليمي.
الخلفية التاريخية للعلاقات التشادية الفرنسية: الشراكة والتحديات
افتتحت الندوة بمداخلة قدمها الأستاذ جبرين أحمد عيسى الرئيس التنفيذي للمركز العربي الأفريقي للاستثمار والتسهيلات في رواندا. وهو إعلامي وباحث في الشأن الأفريقي، حيث استعرض تاريخ العلاقات بين البلدين منذ استقلال تشاد عام 1960 وحتى القرار الأخير. تناول الدور الفرنسي في الاستقرار الأمني والسياسي لتشاد وأسباب التوترات التي أدت إلى إنهاء الاتفاقيات الدفاعية.
العلاقات بين فرنسا وتشاد منذ الاستقلال تتسم بعدم الاستقرار والتغير المستمر، حيث تعتمد بشكل أساسي على المصالح المتبادلة. عشية استقلال تشاد، أرسلت فرنسا رسالة قوية لتأكيد سيطرتها من خلال قطع الكهرباء عن البلاد بأكملها، مشددة على نفوذها حتى بعد إعلان الاستقلال.
شهدت العلاقة بين البلدين شراكات قوية في فترات معينة، ولكنها كانت تتغير مع تبدل المصالح. في عهد الرئيس فرنسوا تمبال باي، تميزت العلاقات بالمتانة، إلا أنها دخلت مرحلة اضطراب خلال السبعينيات مع تولي الرئيس فليكس ما لوم، حيث واجهت البلاد حروباً أهلية. بتأثير الضغوط الشعبية، اضطرت فرنسا لدعم تعيين رئيس من شمال البلاد، محمد جوا. كما لعبت دوراً كبيراً في التدخل التشادي لمواجهة تدخلات معمر القذافي، واستمرت تدخلاتها حتى الثمانينيات.
لم تتردد فرنسا في دعم رؤساء ثم الإطاحة بهم عند تغيّر الأوضاع، وهو ما حدث مراراً عبر التاريخ التشادي. فرغم دعمها لفليكس ما لوم، الذ استبدلته لاحقاً بحسين حبري بسبب خلافات متعلقة بالحرب التشادية الليبية، قبل أن تدعم انقلاب المارشال إدريس ديبي ضده في عام 1990.
اعتمدت فرنسا على اتفاقية الفرنك سيفا للسيطرة على التنمية الاقتصادية في الدول الإفريقية، بما في ذلك تشاد، ولم تكتف بذلك بل هيمنت أيضاً على السياسة والجيش. استمرار ارتباط تشاد بفرنسا يعود إلى موقعها الاستراتيجي ودورها كقاعدة عسكرية فرنسية مهمة خلال الحربين العالميتين.
في المحصلة، يمكن تلخيص طبيعة العلاقات بين تشاد وفرنسا بأنها علاقات تصب في مصلحة فرنسا والنظم الحاكمة في تشاد، دون تحقيق أي منفعة ملموسة للشعب التشادي.
أبعاد إنهاء اتفاقيات الدفاع: السيادة مقابل الأمن
واصل الأستاذ جبرين أحمد عيسى حديثه في هذا المحور، مشيرا إلى أن فرنسا خلال الفترة الأخيرة لم تكن على وفاق مع الرئيس التشادي الحالي محمد إدريس ديبي وبدأ هذا الخلاف منذ سنة 2022، ويرجع ذلك لعدة أسباب، حيث طالبت فرنسا ديبي الابن خلال توليه الفترة الانتقالية بعدم الترشح ولكنه مع ذلك ترشح وتولى الرئاسة في تشاد.
ولكنه نجح في ذلك بالرغم من معارضة فرنسا بعد نجح في تهدئة الوضع الداخلي وخاصة خلال الحوارات مع المعارضة في الدوحة ومن خلال تقديم تطمينات دولية من خلال وعدوه بأن وضع تشاد سيكون مختلف عن أوضاع بقية دول الساحل.
لذلك العلاقة كانت في غاية توتر منذ سنة 2022 إلى حد يومنا هذا، ولذلك لم تقدم فرنسا أي دعم للجيش التشادي خلال مواجهاته للتنظيمات الارهابية في بحيرة تشاد وخاصة مع الهجوم الأخير الذي أدى لمقتل 40 جندي من جيش تشاد وهي الشعرة التي قسمت ظهر البعير.
كما أن توقيت إعلان ايقاف الاتفاقية في توقيت رمزي تزامن مع ذكرى إعلان قيام جمهورية تشاد وبعد ساعات قليلة من زيارة وزير الخارجية الفرنسية وهو ما كان مفاجأة لفرنسا ولدوار صنع القرار فيها.
البدائل الاستراتيجية: نحو شراكات جديدة
أكد الدكتور أحمد محمد عمر ساعد أستاذ في العلاقات الدولية بجامعة كارابوك التركية إلى أهمية أن تكون مثل هذه المسائل والندوات أن تكون إفريقية وتحل مشاكلها إفريقيا، وذلك عبر الإشارة إلى خطورة المصطلحات المستعملة والتلاعب بيها وخاصة من خلال ألفاظ مثل الاتفاقيات المشتركة وغيرها والتاريخ المكتوب من قبل الغرب والقوى الاستعمارية وهو ما يؤثر على قراءتنا لتاريخنا، لفهم مفهوم الاستغلال حيث أن أغلب هذه الاتفاقيات كانت تصب في مصلحة طرف واحد وهو الطرف الفرنسي. الفرنسيين الذين يتعاملون مع تشاد والمنطقة من منطلق استعماري أفقي عبر اتفاقيات تصب في مصالحهم وتمكن من مواصلة سياساتهم في نهب ثروات المنطقة. وأكد على أن الاستقلال تم عن فرنسا بدون سيادة وكان مجرد استقلال شكلي بدون استقلال سياسي واقتصادي وبقي بيد فرنسا.
أشار إلى جهود جبهة تحرير تشاد معروفة باختصار فرولينا ودورها في محاولة تحقيق الاستقلال التام لتشاد خلال السبعينات وأجهضت نضالات هذه الحركة ولكن فرولينا تركت بصمتها في تاريخ تشاد ولعبت دور هام جدا.
وحاليا أكدت العديد من السياسات على أهمية أن تكون تشاد ذات استقلالية اقتصادية وسياسية وعسكرية وحتى ثقافية، وهو ما يعكس توجه الحكام الحاليين وسياسات الأفارقة في الوقت الراهن.
وأشاد إلى أن الجيش التشادي ذو كفاءة كبيرة جدا وليس بحاجة إلى فرنسا، وقد أثبت في مناسبات عديدة ذلك من خلال محاربته للتنظيمات الارهابية بمنطقة بحيرة تشاد والعديد من الدول الافريقية الأخرى، وأن تشاد تمتلك علاقات أخرى مع قوى إقليمية ودولية كتركيا والصين تقوم على الشراكة ومصالح متبادلة وعلاقة ذات طابع عمودي عكس فرنسا التي تتعامل مع تشاد بعقلية الاستعمارية، بالإضافة إلى فرص تعزيز التعاون الإقليمي في إطار مبادرات مثل كونفدرالية الساحل.
إعادة صياغة العلاقات الإفريقية الفرنسية: دروس من التجربة التشادية ودول الساحل
اختتم الدكتور إسماعيل الطاهر أستاذ الجغرافيا السياسية بجامعة هيك التشادية الندوة بمداخلة استعرض فيها تأثير القرار التشادي على الاستراتيجية الفرنسية في إفريقيا ومستقبل العلاقات الثنائية . وأشار إلى أن الفرنسيين فشلوا طيلة هذه السنوات في فهم العقلية الافريقية والتعاطي معها، وبأن الأفارقة خلال السنوات الأخيرة انفتحوا على قوى أخرى وأنشأوا علاقات جديدة.
وفرنسا التي كانت دائما ما تطرح نفسها كركيزة أمنية وعسكرية للدول الإفريقية ودول الساحل أيضا، تفاجأت لتواجد العديد من القوى الاخرى الدولية والإقليمية التي تنسق وتتعاون مع الأفارقة في القارة كالصين والروس والأتراك وغيرهم، وهو ما تسبب في فقدان عدد من الدول كإفريقيا الوسطى ودول الساحل وتم طرد قواعدها العسكرية وذلك بمباركة شعوب هذه الدول.
وأكد على أن العلاقة المستقبلية بين فرنسا وتشاد ستقوم على الرؤية الحالية للنخب السياسية والثقافية والتوجه الشعبي بصفة عامة الرافض لعودة أي هيمنة أو تبعية لفرنسا سياسا واقتصاديا وحتى أمنيا وعسكريا، وهذا المنظور الجديد الرافض لأي هيمنة فرنسية هو مشترك بين الدول الأفريقية الفرنكوفونية وهو ما سيساهم في خلق تحالف قوي في ما بينها أساسه القطيعة مع نمط العلاقة السابق مع فرنسا، وهو ما سيؤسس لقيام علاقات مع فرنسا وغير فرنسا واتفاقيات مبنية على الندية والكل فيها رابح، وقد فهم جزء كبير من الساسة الفرنسيين والأوروبيين هذه النقطة ومنهم من يدفع لتكون العلاقات مبنية على هذا الأساس.
وأشار إلى أن الفراغ الأمني الذي ربما ينشأ بعد الغاء الاتفاقية مع فرنسا، هي قد خلقته وسببته منذ زمن طويل وقد تقاعست في السابق وخلقت هذا الفراغ وحتى ساهمت في خلق مجموعات لخلق فوضى أمنية وقلقل في المنطقة وكانت رديف سيء للدول الإفريقية في مكافحة التنظيمات الارهابية، وأكد على أن دول الساحل التي قطعت مع فرنسا ستتمكن حاليا من مجابهات المخاطر الأمنية لوحدها من دون الحاجة لفرنسا، ولكن فرنسا ستسعى وتواصل لخلق إشكاليات أمنية في المنطقة لعرقلة جهود هذه الدول ولكي تؤكد على أهمية وجودها في منطقة كفاعل أمني وهو ما فعلته تاريخيا في العديد من الدول الإفريقية التي خرجت أو حاولت الخروج من تحت هيمنتها.
واختتم مداخلته قائلاً بأن الأفارقة بضفة عامة والتشاديين بصفة خاصة يرفضون التعامل مع فرنسا وهيمنتها التي تواصلت لعقود كثيرة ووصلوا إلى قناعة بوجوب الدفاع عن نفسهم لوحدهم وبأنهم مصيرهم غير مرتبط بالمصير الفرنسي، ويمكننا خلق شراكات جديدة تقوم على الندية ومصالح المتبادلة، مؤكدا على أن غياب فرنسا لن يترك فراغا ولكنها ستحاول خلق فراغ ومشاكل أمنية في المنطقة.
مخرجات الندوة
- توصيات عملية لتعزيز استقلال تشاد في سياستها الدفاعية.
- وضع آليات لتحفيز التعاون الإقليمي في منطقة الساحل.
- مقترحات لإعادة صياغة العلاقات الإفريقية الفرنسية بما يضمن السيادة الوطنية للدول الإفريقية.
ختـــــــــــاما
وقبل الختام خاطب الحضور مدير الندوة شاكرا المتحدثين والمعقبين والمتداخلين. وفي الأخير وجه مدير الندوة بعض الأسئلة والتعليقات حول الموضوع وتوجه بالشكر لكافة الحضور من الباحثين والمهتمين بالشأن التشادي بصفة خاصة والإفريقي بصفة عامة من المتداخلين والمتابعين.
وبعد انتهاء هذه المداخلات الرئيسية، تم فتح باب المداخلات أمام الحضور للتعقيب والنقاش، ليتداخل الحاضرين بتساؤلاتهم وإضافاتهم حول موضوع الندوة، بحيث عملت مداخلات الحضور على مقاربة الموضوع من مختلف زواياه، وقدمت وجهات نظر مختلفة حول هذا الموضوع. وتم إعطاء الكلمة الأخيرة للمتحدثين والمعقبين للإجابة عن الأسئلة وتقديم كلماتهم وتعليقاتهم الختامية حول موضوع الندوة. أكدت الندوة أهمية معالجة التحديات الأمنية الناجمة عن التحولات السياسية، مع تقديم بدائل استراتيجية مبتكرة تعزز السيادة الوطنية لتشاد دون المساس بالاستقرار الإقليمي.
لمشاهدة الندوة اضغط هنا
ندوات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات