في 29 نوفمبر 2024، أعلنت تشاد رسميًا إنهاء اتفاقية التعاون الدفاعي مع فرنسا، مما يشكل نهاية شراكة امتدت منذ عام 1958. هذا القرار، الذي جاء بتأكيد من الحكومة التشادية، يعكس رغبة البلاد في استعادة سيادتها الكاملة بعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال. ,تعتبر هذه الخطوة تحولًا محوريًا في السياسة الخارجية لتشاد؛ حيث تشير إلى نيتها إعادة تقييم تحالفاتها الاستراتيجية وإعادة تحديد موقعها في النظام العالمي.
وكانت تشاد، الدولة غير الساحلية الواقعة في وسط إفريقيا، مستعمرة فرنسية منذ أوائل القرن العشرين، وظلت تحت الهيمنة الفرنسية حتى استقلالها في عام 1960. ورغم استقلالها، استمرت العلاقات الوثيقة بين تشاد وفرنسا في المجالات الدبلوماسية والعسكرية. ولعبت فرنسا دورا مركزيا في إدارة الشؤون الداخلية لتشاد؛ حيث تدخلت عسكريًا في عدة مناسبات خلال فترات الصراعات والاضطرابات الداخلية، مما رسخ مكانتها كفاعل خارجي رئيسي في أمن تشاد.
ولكن السنوات الأخيرة شهدت تغيرات ملحوظة في التوجه التشادي نحو الشراكات الدولية. فأصبح التركيز على تعزيز الاستقلالية الوطنية والدفع نحو تنويع التحالفات أولوية واضحة. وتُعزى هذه التوجهات جزئيا إلى التطورات الأمنية المتغيرة في منطقة الساحل، بالإضافة إلى حضور قوى دولية جديدة مثل روسيا.
وزيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في يونيو 2024 كانت بمثابة إشارة واضحة لاهتمام تشاد بتوسيع خياراتها في التعاون الأمني، وهو ما يعكس نمطًا أوسع في منطقة الساحل، حيث تسعى الدول إلى تقليل اعتمادها على التحالفات التقليدية مع القوى الغربية.
إن إنهاء التعاون الدفاعي مع فرنسا يحمل تداعيات عميقة ليس فقط لتشاد؛ بل أيضا للمنطقة ككل. فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى انسحاب القوات الفرنسية المتمركزة في تشاد، مما يترك فراغا أمنيا قد يعقّد جهود مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل. كما أنّ تشاد، التي كانت شريكا رئيسيا لفرنسا في العمليات العسكرية ضد الجماعات المتطرفة، قد تجد نفسها بحاجة إلى إعادة صياغة استراتيجياتها الأمنية بالتنسيق مع شركاء جدد.
يضع هذا القرار بلا شك ضغوطًا إضافية على فرنسا لإعادة تقييم استراتيجياتها في إفريقيا وسط تصاعد الأصوات المنتقدة لنفوذها التقليدي.
ويمثل هذا التطور لحظة فاصلة ليس فقط في العلاقات بين تشاد وفرنسا، ولكنه يعكس أيضًا التحولات الجيوسياسية الأوسع نطاقًا في إفريقيا. ترتبط هذه الخطوة بمساعي الدول الإفريقية لتأكيد سيادتها، وتحقيق التعاون الإقليمي المستقل، وإعادة تعريف شراكاتها بما يتماشى مع رؤى تنموية وأمنية تلبي احتياجاتها المحلية. في هذا السياق، تمثل تشاد نموذجًا لدول أخرى في المنطقة قد تتبع نفس المسار نحو إعادة بناء شراكاتها الدولية.
وللتعرف على ملابسات هذا القرار أكثر، سيناقش فريق المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفرو بوليسي) خمسة نقاط محورية على النحو التالي:
1. تعزيز السيادة والحكم الذاتي الإقليمي
إنّ قرار تشاد بإنهاء اتفاقيات الدفاع مع فرنسا يؤكد على اتجاه متزايد لدى الدول الأفريقية الساعية إلى تأكيد سيادتها وإعادة تعريف العلاقات ما بعد الحقبة الاستعمارية. وتشكل هذه الخطوة جزءاً منْ رفض أوسع للتبعيات التاريخية التي غالباً ما وضعت القوى الاستعمارية السابقة في مركز الأمن والحكم الأفريقي. وبالنسبة لتشاد، فإنها تمثل خطوة مهمة نحو المطالبة بالسيطرة الكاملة على استراتيجياتها العسكرية والسياسية، خالية من النفوذ الخارجي.
وبإنهاء اتفاقيات دفاعية دامت 66 عاماً، تشير تشاد إلى عزمها على بناء جهاز دفاعي يتماشى مع مصالحها الوطنية وواقعها الإقليمي. ومع ذلك، فإن هذا الحكم الذاتي يجلب معه أيضاً تحديات، حيث يتعين على تشاد الآن الاعتماد بشكل أكبر على مواردها المحلية وتحالفاتها الإقليمية لمعالجة التهديدات الداخلية والعابرة للحدود. ومن المرجح أن تمتد آثار هذا القرار عبر وسط أفريقيا، مما يؤثر على كيفية إدارة الدول الأخرى لعلاقاتها مع القوى الخارجية.
إنّ هذا السعي إلى تعزيز السيادة الوطنية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالديناميكيات التاريخية للمنطقة؛ حيث تساءلت الدول بشكل متزايد عن إرث الروابط الاستعمارية الجديدة. إن تحول تشاد بعيدًا عن فرنسا يرمز إلى هذا الطموح الأوسع، حيث تسعى البلدان في أفريقيا إلى السيطرة على مصائرها وسط تحالفات عالمية متغيرة.
2. التداعيات على استراتيجية فرنسا الأفريقية
إنّ النهج الفرنسي الراسخ تجاه الأمن الأفريقي، وخاصة في منطقة الساحل ووسط إفريقيا، يواجه تحديًا كبيرًا مع قرار تشاد. على مدى العقود، اعتمدت فرنسا على اتفاقياتها الدفاعية مع دول مثل تشاد للحفاظ على النفوذ ومتابعة أهدافها العسكرية في المنطقة. إن رحيل تشاد يشكل ضربة مباشرة لهذه الاستراتيجية وقد يؤدي إلى تحركات مماثلة من قبل دول أخرى في منطقة الساحل ووسط أفريقيا.
وهذه بطبيعة الحال ليست حادثة معزولة. لقد واجهت فرنسا بالفعل انتكاسات في مالي والنيجر وبوركينا فاسو؛ حيث سحبت قواتها وسط مقاومة متزايدة لوجودها العسكري. إن قرار تشاد يقوض بشكل أكبر قدرة فرنسا على فرض قوتها في منطقة كانت محورية لسياستها الخارجية. وقد يدفع هذا باريس إلى إعادة النظر في نهجها، مما قد يحول التركيز نحو المشاركات غير العسكرية مثل مساعدات التنمية ودعم الحكم.
إنّ الآثار المترتبة على هذا التحول عميقة، لأنه يعكس إعادة تنظيم أوسع للقوى في المنطقة. إن تضاؤل دور فرنسا يترك المجال لجهات فاعلة أخرى، بما في ذلك روسيا والصين، لتوسيع نفوذها. وهذا يثير تساؤلات مهمة حول مستقبل التدخل الأجنبي في أفريقيا وكيف يتماشى مع الأولويات والتطلعات المحلية.
3. التأثير على عمليات مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل
إنّ تحرك تشاد يؤثر أيضا على مشهد مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل؛ حيث كانت تشاد حجر الزاوية في جهود الأمن الإقليمي. لقد لعب الجيش التشادي دورا محوريّاً في مكافحة الجماعات المتطرفة مثل بوكو حرام وفروع داعش، غالبًا بالتنسيق مع القوات الفرنسية. إن إنهاء اتفاقيات الدفاع مع فرنسا من شأنه أن يعطل هذه الجهود، مما قد يضعف الاستجابة الإقليمية للإرهاب.
ويأتي هذا القرار في وقت حرج، حيث استمرت الجماعات المتطرفة في استغلال ثغرات الحكم والأمن في منطقة الساحل. وبدون التنسيق الذي توفره المبادرات التي تقودها فرنسا مثل عملية برخان، قد تواجه تشاد وجيرانها تحديات أكبر في معالجة هذه التهديدات. وعلاوة على ذلك، فإن خروج القوات الفرنسية من شأنه أن يشجع الجماعات المتطرفة، مما يزيد من زعزعة استقرار المنطقة.
ومع ذلك، فإن قرار تشاد يمثل أيضًا فرصة لإعادة التفكير في استراتيجيات مكافحة الإرهاب. إن النهج الإقليمي الذي يعطي الأولوية للحلول المحلية ويعزز التعاون بين البلدان الأفريقية قد يثبت أنه أكثر استدامة في الأمد البعيد. إن هذا التحول يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة السيادة، حيث تسعى البلدان إلى استعادة الوكالة على سياساتها الأمنية والحد من الاعتماد على الجهات الفاعلة الخارجية، خاصة في ظل ضعف الاستجابات للتهديدات الذي تشكله الجماعات الإسلامية المتطرفة، والشكوك التي تساور المسؤولين في طريقة تعاطي الحلفاء وفاعلية الاتفاقيات الثنائية، في الاستجابات المطلوبة لمساعدة الدول الإفريقية.
4. التنويع الاستراتيجي للشراكات
إنّ تحول تشاد بعيداً عن فرنسا يسلط الضوء على نيتها الاستراتيجية في تنويع الشراكات والحد من الاعتماد على جهة واحدة. وقد أبدت البلاد بالفعل اهتمامها ببناء علاقات مع لاعبين ناشئين مثل روسيا والصين وتركيا. ويعكس هذا التنويع اتجاهاً أوسع بين الدول الأفريقية التي تسعى إلى تحقيق التوازن بين التحالفات الغربية التقليدية والشراكات العالمية الجديدة.
ويرمز التواصل الروسي الأخير مع تشاد، بما في ذلك زيارة سيرجي لافروف في وقت سابق من هذا العام، إلى هذا الاتجاه. وقد تقدم هذه التحالفات الناشئة بدائل لتشاد من حيث الدعم العسكري وتطوير البنية الأساسية والتعاون الاقتصادي. ومع ذلك، فإنها تأتي أيضاً مع مخاطر، حيث قد تكرر الشراكات الجديدة أنماط التبعية القديمة إذا لم تتم إدارتها بعناية.
ويرتبط هذا التنويع في الشراكات بشكل مباشر بتطلعات تشاد الأوسع نطاقاً للحكم الذاتي والسيادة. من خلال التعامل مع العديد من الجهات الفاعلة العالمية، تأمل تشاد في تأمين شروط أفضل في علاقاتها الخارجية، مع الحد من خطر الاعتماد المفرط على أي قوة واحدة. ومع ذلك، تتطلب هذه الاستراتيجية الملاحظة الدقيقة لضمان توافق التحالفات الجديدة مع أهداف تشاد طويلة الأجل.
5. التداعيات الإقليمية وتوقعات الوحدة الأفريقية
يتردد صدى قرار تشاد في جميع أنحاء المنطقة، مما قد يلهم الدول المجاورة لإعادة التفكير في استراتيجيات السياسة الخارجية الخاصة بها. قد ترى دول مثل النيجر وبوركينا فاسو، حيث كانت المشاعر المعادية لفرنسا في تصاعد، في تحرك تشاد نموذجًا لتأكيد الاستقلال وتنويع الشراكات. وقد يؤدي هذا إلى تحول إقليمي في كيفية تعامل الدول الأفريقية مع القوى الاستعمارية السابقة والجهات الفاعلة العالمية الأخرى.
وتمتد تداعيات هذا التحول إلى ما هو أبعد من الدول الفردية. يمكن أن يؤدي التحرك نحو الاعتماد على الذات والتعاون داخل أفريقيا إلى تعزيز الأطر الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، مما يمكن البلدان من معالجة التحديات المشتركة بشكل أكثر فعالية. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا المستوى من الوحدة يتطلب قيادة قوية وتنسيقًا، فضلاً عن رؤية مشتركة للمستقبل.
إنّ قرار تشاد يسلط الضوء أيضاً على أهمية بناء حلول أفريقية للمشاكل الأفريقية. ومن خلال إعطاء الأولوية للسيادة والتعاون الإقليمي، تقدم تشاد مثالاً لكيفية تمكن الدول الأفريقية من التنقل عبر تعقيدات الجغرافيا السياسية العالمية مع الحفاظ على السيطرة على مصائرها.
الخلاصة
إنّ إنهاء تشاد لاتفاقيات الدفاع مع فرنسا ليس مجرد قرار ثنائي – بل هو بيان نوايا يعكس تحولات أوسع نطاقاً في الجغرافيا السياسية الأفريقية. وتجسد هذه الخطوة الرغبة المتزايدة في المنطقة في السيادة، وإعادة تعريف الشراكات الأجنبية، والحاجة إلى حلول محلية للتحديات الإقليمية. وفي الوقت نفسه، تطرح أسئلة مهمة حول مستقبل مكافحة الإرهاب، ودور القوى الخارجية، وإمكانية الوحدة بين البلدان الأفريقية.
وتسلط الطبيعة المترابطة لهذه التطورات الضوءَ على التوازن المعقد الذي يجب على تشاد والدول الأفريقية الأخرى تحقيقه أثناء تنقلها في عالم متعدد الأقطاب. وفي حين أن قرار تشاد قد يلهم تحركات مماثلة في جميع أنحاء المنطقة، فإنه يؤكد أيضاً على الحاجة إلى نهج منسق ومستدام للأمن والحوكمة والتنمية. ومع قيام الدول الأفريقية بشكل متزايد برسم مساراتها الخاصة، يجب أن يظل التركيز منصبا على تعزيز الشراكات الحقيقية التي تعطي الأولوية للاحتياجات والتطلعات المحلية على الأجندات الخارجية.
تحليلات المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات