تحليلات

صوماليلاند ومساعي البحث عن الاعتراف

حقائق ملتبسة... وسرديات غير متماسكة

مقدمة

يُعدّ ملف صوماليلاند من الملفات الشائكة العالقة على كاهل الصومال الدولة في العقود الثلاثة الأخيرة. وصوماليلاند تمثّل مكونًا جغرافيًّا رئيسيًّا من مكونات الصومال الدولة منذ الوحدة المحققة بين الشمال والجنوب في الأول من يونيو عام 1960على الرغم من انفصالها الأحادي من الصومال في مايو 1991 بعد انهيار النظام العسكري في البلاد، وذلك نتيجة تكالب عوامل داخلية مع حسابات قوى خارجية معروفة المنشأ والهدف تحققت عبر جبهات مسلّحة كانت من بينها الحركة الوطنية الصومالية المعروفة بـ SNM. ومن يومها، تسلك هرجيسا (عاصمة صوماليلاند) إلى جميع السبل التي تظنّ أنها ستوصلها إلى الاعتراف، وهي طرق لم يخلُ البعض منها من التضليل المتعمد أو قصد تشويه الحقائق المجردة للعامة. وجغرافيًّا، تشّكل صوماليلاند القديمة (137600كم2) ما نسبته 21% من المساحة الجغرافية للصومال، بينما سكانها يشكلون نسبة قريبة من النسبة الجغرافية أو أقل منها بعض الشيء. وينبغي الإشارة إلى أن هذه الأرقام تقلصت كثيرًا مع إعلان انفصال إدارة خاتمو (SSC) الجديدة عن صوماليلاند عام2023 ، وهو تقلص لم يستقر بعد على وضع معين، ويمرّ الآن بحالة تزحزح مستمر في حالتي المساحة وعدد السكان معًا، ويمثل نسبة الثلث على الأقل من تلك المساحة المذكورة.

وبدأت هرجيسا تقدم نفسها إلى القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة وبعض حلفائها الإقليميين على أنها جمهورية مستقلة تملك بعضًا من مقومات الدولة، ويمكن أن تكون شريكًا لهم في جهود احتواء الصين، والمحاربة ضد الحوثيين في اليمن، ومهاجمة إيران المحتملة إلى جانب موضوع مكافحة الإرهاب الدولي والشراكة الاقتصادية متعددة الأوجه، والمساهمة في الحفاظ على أمن الملاحة في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. وتسوّق هرجيسا عرضها بناءً على موقعها الجغرافي المشاطىء لخليج عدن، وتحكّمها في ميناء بربرة ذات الأهمية الجيوسياسية إلى جانب تبرير موقفها الانفصالي بأحقيتها في العمل بمبدأ حق تقرير المصير المقرر في القانون الدولي ومنجزاتها الديموقراطية في عملها السياسي. ولا يوجد أي شك أو تشكيك في أن هرجيسا حققت تقدمًا حقيقيًّا في مجالات تحقيق الاستقرار السياسي واستتباب الأمن، وعقد الانتخابات العامة في الدوائر المحلية والتمثيلية، والحفاظ على الحياة الحزبية القائمة على التنافس في المقاعد التمثيلية، وهي كلها مجالات حيوية استثمرتها هرجيسا كثيرًا لصالحها السياسي، وجعلت أراضيها مكانًا أكثر أمانًا من بقية البلاد؛ حيث يذهب إليها الصوماليون لقضاء أغراضهم المختلفة، ويلجأون إليها للعيش في فترات اشتداد الحروب وصعوبة الحياة في بعض المدن الصومالية الأخرى.

المسالك التي اتبعتها هرجيسا للحصول على الاعتراف

سلكت هرجيسا مسارًا متعدد الراوافد تميز على ما يبدو بعدم وجود استثناءات معينة أو وجود خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها لتحقيق هدفها الرئيسي الذي هو الحصول على الاعتراف. وآخر هذه المسالك هو الإعلان المخل “…لانفتاحها على مناقشة كل شيء… وعدم استبعاد استيعاب سكان غزة…”، مقابل الحصول على الاعتراف، وذلك في سياق التعاطي مع بحث الولايات المتحدة لجهة ما، يكون عندها استعداد لاستقبال الفلسطينيين المهجرين قسرًا من أراضيهم، وخاصة فلسطينيي غزة. ومؤخرًا، كتبت صحف إسرائيلية من بينها هآرتس مقالاً عن هذا الموضوع، ونشرت هيئة البث الإسرائيلة أكثر من مرة خبرًا في السياق نفسه، كما طبعت في شهر مارس تقريرًا استندت فيه إلى مصادر صحفية معتبرة، من بينها: وكالة رويترز، وفايننشال تايمز، عن استعداد هرجيسا لأي عرض يُمكّنها من الحصول على الاعتراف، وذلك بالتوازي مع منابر إعلامية محسوبة على دولة الإمارت، من بينها: منبر Emirates leaks وMiddle East Monitor (MEM) تفيد بعرض أبوظبي بناء قاعدة عسكرية واستخباراتية لإسرائيل في صوماليلاند. وقد اهتمامات هرجيسا في العلاقة مع إسرائيل مع بداية الانفصال؛ حيث كتب محمد إبراهيم عغال المعروف بـ”عغال” ( رئيس وزراء الصومال سابقًا 1967-1969)، رسالة إلى رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين في بداية التسعينيات من القرن المنصرم يعرب من خلالها عن رغبة هرجيسا في التعاون مع اسرائيل في عدة مسائل، من بينها: التهديد المتنامي القادم من التطرف والإسلام الراديكالي المنتشر في الإقليم، ومخاوفه من انتشار عدواه في الصومال، وذلك اعتقادًا منه أن العلاقة مع إسرائيل قد تجلب مزيدًا من الانتباه الدولي لقضية هرجيسا.

وكشف المتحدث باسم الوزارة الخارجية في إسرائيل Vigal Palmor صحة تلك الاهتمامات المبكرة مع إسرائيل في 2010، وصحة تلك الاتصالات المبكرة. ومن اللافت للنظر أن Palmor أشاد بالرؤية السياسية لـ”عغال”، وأكد في تصريحاته وقتذاك بأن هرجيسا وتل أبيب تجمعهما العزلة السياسية الناتجة من البيئة العدائية المحيطة بهما. وإلى جانب ذلك، فإن هرجيسا ارتبطت مع إثيوبيا والإمارات بعلاقة ثلاثية الأبعاد، وبين الثلاثة مصالح مشتركة متمحورة في تحقيق طموحاتهم المرتكزة في تطوير موانئ الشمال وبناء ممرات تجارية تربط تلك الموانئ في خليج عدن بالعمق في إثيوبيا الشرقية ووسطها؛ وهو ما يضمن لإثيوبيا إمكانية إيجاد منافذ بحرية متنوعة، ويحررها من هواجس اعتمادها شبه الأوحد على ميناء جيبوتي، ويعطي لهرجيسا من جانبها اعترافها المنشود.

وتلحّ هرجيسا على إثيوبيا منذ التسعينيات تحديدا لتبنِّي ملف الاعتراف بها ونقله إلى المحافل الدولية ومنصة الاتحاد الإفريقي؛ وهو أمر عملت عليه إثيوبيا بقوة ودفعت مبكرًا بتشكيل لجنة تقصي حقائق مبتعثة من الاتحاد الإفريقي إلى هرجيسا للنظر في قضيتها، وأصدرت تقريرها المعروف النتائج في 2005، ولكن حماسها في الموضوع تراجع كثيرًا، وأصبحت مقتنعة بأن العلاقة مع هرجيسا قد تكون أفضل على حالتها الراهنة أكثر من غيرها، رغم وجود التزامات متبادلة في مجالات حيوية متشعبة. وفي العام الماضي، رأينا مذكرة تفاهم موقعة بينها وبين إثيوبيا في أديس أبابا غرة العام الماضي بمباركة إماراتية، وبموجبها كانت هرجيسا تؤجر لإثيوبيا منطقة بحرية في مياه خليج عدن وبطول يصل إلى 20 كلم لمدة 50 سنة، وبمقتضاها تستخدمها إثيوبيا لأكثر من غرض مزدوج الطابع مقابل نيل صوماليلاند الاعتراف، وهي مذكرة تفاهم جمّدها التحول القيادي الحاصل في هرجيسا نهاية عام 2024 ووأدها إعلان أنقرة في 11 ديسمبر 2024. ويتّسق هذ النزوع مع تصريحات ونقاشات عامة متعددة المستويات تشكّك في أصالة انتماء أهل الشمال إلى الصوماليين، وتؤصل الانتماء المشترك بين أهل الشمال مع بعض المكونات العرقية في إثيوبيا، وشاعت تلك التصريحات في هرجيسا بشكل أكثر إبان فترة حكم موسى بيحي (2027-2024) على المستويين الإداري والشعبي. ومن اللافت للنظر، أن تلك النقاشات ذهبت باتجاه التكريس على التمايز بين أهل الشمال وبقية الصوماليين وتعميق الانقسام المجتمعي، وتصف مقديشو بأنها عدوة لها، أو بشكل أكثر دقة لا يوجد “عدو أشد منها، .. وأقرب مني إلى أمهرا” حسب شعار الأغنية المشهورة التي أطلقتها فرقةDayax Ban من هرجيسا في 2024 وتعادي المحور الدولي الداعم لقضايا وحدة الصوماليين، وتتصادق مع العاملين على الانتهاك الدائم للسيادة الصومالية ولضرب الوحدة القومية في البلاد باستمرار. بالإضافة إلى ذلك، فإن هرجيسا ترصد مبالغ طائلة مدرجة في ميزانيتها السنوية للدفع باستمرار لصالح أجندة الاعتراف، واستأجرت أكثر من مجموعة لوبيات متمركزة معظمها في أديس أبابا ولندن وبركسيل، وكذلك في جنوب إفريقيا والولايات المتحدة والإمارات منذ 2013م، وتجسّد معظمها في صورة مراكز البحث والدراسات أو على صورة شخصيات مستقلة معتبرة تتولى- أو تولت سابقًا- بعض المناصب المرموقة في بلدانهم، مثل: رؤساء في إفريقيا، منهم: أوبسانجو من نيجيريا، وأودينجا من كينيا، وكذلك بعض النواب واللوردات، مثل: اللورد ستيوارت بولاك، والنائب جافين ويليامسون في بريطانيا، وكذلك الأعضاء في الكونغرس، مثل: سكوت بيري، السيناتور كريس فان في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك بهدف تحسين العلاقة العامة وتلميع صورتها الخارجية ورفع قضاياها إلى دوائر التأثير في صناعة القرار الدولي، وهي كلها روافد متناسقة تخطط هرجيسا لأن تكون روافد متكاملة لتحقيق هدف نيل الاعتراف غير المنظور.

لماذا تعثرت مساعي الاعتراف؟

على الرغم من الجهود التي تبذلها هرجيسا منذ تلك الفترة، والموارد التي تسخرها باستمرار من أجل تحقيق هدفها السياسي، فإن هرجيسا لم تنل الاعتراف بعد، وهي في حالة ابتعاد عنه في كل مرة تعتقد أنها اقتربت منه، وربما كانت ولادة نظام مستقل عن الصومال في هرجيسا أقرب في الوقت الماضى بالنسبة إلى الحالي، ويرجع ذلك إلى الأسباب الآتية:

1. سوء التعامل مع الحقائق التاريخية المجردة

تبدأ هرجيسا سرديتها السياسية بأنها انفصلت عن الصومال الدولة مبكرًا مثلما توحدت معها سابقًا طواعية، وأنها تريد أن تسلك في سبيل نيلها الاعتراف مبدأ حق تقرير المصير المنصوص عليه في القانون الدولي، وتكرّر في خطاباتها السياسية أنها كانت مستعمرة بريطانية مستقلة معروفة الحدود، حصلت على الاعتراف من عدة دول قبل توحدها مع الإقليم الجنوبي في الصومال، وهو أمر صحيح في بعض جزئياته، ولكن تنقصه الدقة في صورته الكلية، ويظهر تغييب الوجه الآخر من الحقيقة غير المجزأة. ويبدو أن هرجيسا تسيء الفهم- ربما عن عمد- للحقائق القانونية المنصوص عليها في القانون الدولي بوضوح تام، وقد تعاملت مع مبدأ حق تقرير المصير بحمولة عاطفية جامحة يغلب عليها الاجتزاء على الشمولية في الرواية كلها. ومن الأصل، مبدأ حق تقرير المصير أطلقه الرئيس الأمريكي ويلسون (1856-1924م) بعد الحرب العالمية الأولى بهدف إنهاء الوضع الاستعماري في العالم ومساعدة الشعوب الخاضعة للاستعمار في أن تحرر نفسها من قبضة القوى الأوروبية المسيطرة عليها، ولا يعني مبدأ حق تقرير المصير انفصال إقليم معين من دولة ما مطلقًا أو من إقليمين متحدين، ولا يوجد في القانون الدولي ما يسمى بالانفصال الأحادي الجانب، وعلى العكس من ذلك تمامًا، فإن القانون الدولي لا يشجع على تكاثر الدول من حيث المبدأ، ويجرّم الانفصال التلقائي عن دولة موحدة بعينها، ويرفض رفضًا قاطعًا تقطيع أوصال دولة ذات سيادة دولية، ويحصن السيادة الإقليمية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ويقدم سلامتها الإقليمية على مبدأ حق تقرير المصير الخارجي وليس الداخلي في الإقليم الذي يريد الانفصال عن الدولة الأم.

ويكون حق تقرير المصير الخارجي واردًا فقط في حال وجود إكراه في الحكم أو تمييز في المعاملة من قبل قوى خارجية مسيطرة على الإقليم الذي يريد الانفصال، وأحد شروط تطبيقه الأساسية هو الحصول على موافقة الدولة التي يريد الإقليم الانفصال عنها بعد اليأس من فاعلية الحلول التوفيقية بين الحكومة والإقليم أو التأكد من انسداد الأفق في التوصل للحلول السياسية مع الدولة، وهي كلها مسارات لم تذهب هرجيسا باتجاهها من البداية، أو لا تريد الذهاب نحوها مطلقًا. ونتيجة لذلك، فإن الدول المسؤولة في العالم تتحفظ على التجاوب مع مطالبة هرجيسا الملحّة بمنح الاعتراف، رغم التعاطف مع سرديتها، ووجود مصلحة محدّدة للبعض منها في الانفصال عن الصومال، وتعرف تلك الدول من خلال فقهائها القانونين عدم توافر شروط الدولة الجديدة في قضية هرجيسا، وتدرك تبعات قرار موافقتها على الاعتراف بالإقليم والقارة بأكملها، ومستقبل الخرائط السياسية لمعظم الدول في المنطقة العربية والإفريقية بأسرها.

2. تنكرها لمبدأ أبدية الوحدة بين الشمال والجنوب

ينص ميثاق الوحدة المدرج في صكوك الأمم المتحدة الذي تمت مصادقته في يناير 1961م- على عكس ما تقوله هرجيسا- على أن الوحدة المحققة بين الشمال والجنوب أبدية الطابع


The State of Somaliland and the State of Somalia do hereby unite and shall forever remain united in a new, independent, democratic, unitary republic the name whereof shall the SOMALI REPUBLIC.

ويلغي ذلك الميثاق أي حدود سابقة بينهما إلى الأبد، ويحوّل المنطقتين المتوحدتين إلى دولة واحدة باسم جمهورية الصومال ذات الهياكل الواحدة المندمجة بعضها إلى بعض، ويقسمهما إلى ثمانية أقاليم بدلاً من المنطقتين، ويجعل سكانهما مواطنين في الجمهورية الموحدة الوليدة. ويعني ذلك اعتبار الوجود البريطاني في الشمال ماضيًا تاريخيًّا مماثلاً لوجود الحكم العثماني الأسبق منه، وشبيهًا للحكم المصري السائد قبله في المنطقة نفسها، ولا يختلف ذلك كثيرًا عن الحكم البريطاني الذي كان قائمًا في مقديشو نفسها قرابة عقد من الزمان (1941- 1950م) سوى الفرق الزمني الأطول منه. ومن البداية، لم تكن المنطقة الشمالية مستعمرة بريطانية، بل كانت مجرد محمية، وتعني الحماية موافقة دولة ما على حماية سكان معينين من سيطرة قوة خارجية معينة، وذلك بعد وضع أنفسهم طواعية تحت حكمها، وهو أمر كانت بريطانيا ترغب فيه في ذلك الوقت، وفعلتها القبائل القاطنة في الشمال منذ عام 1884م على فترات متوالية طواعيةً باستثناء قبيلة ظلبهنتي في سول وسناج، بينما الاستعمار يعني السيطرة الكاملة على الأرض بطرق الإكراه أو القوة، وفرض نمط حكم مباشر على السكان، ووجود استغلال معين من قبل قوة خارجية، وتعمل القوة المستعمرة بعدها على ضم المستعمرة إلى أراضيها نهائيًّا، وهو ما لم يكن موجودًا في الشمال؛ وهو ما يعني عدم وجود ملكية تاريخية ما يمكن أن تدَّعيها بريطانيا على إعادتها لأهل الشمال عند فترة الاستقلال عام 1960م بعد أن انتزعت منهم بالإكراه. وفي الأساس، لم تكن موافقة بريطانيا على الاستقلال والوحدة بين الشمال والجنوب استجابة لوجود ضغط محلي متنامٍ بقدر ما كان شعورها بالذنب ورغبتها في إرضاء أهل الشمال بعد قراراتها المخزية في قضيتي هود والأراضي المحجوزة عام 1950، وكذلك بعد تنازلها السابق عنها في الصومال الغربي للإمبراطور منليك 1949، وبمعنى آخر، فإن بريطانيا كانت تريد من موافقتها السريعة على قضيتي الاستقلال والوحدة في الشمال إخفاء جرائمها السياسية في الأراضي الصومالية، وكسب مزيد من ود إمبراطور منليك في منطقة حوض النيل الأكثر أهمية لها من شمال الصومال.

والوثائق المعنية بالحكم البريطاني في الشمال، تشير إلى أن الانطباع البريطاني العام عن الصوماليين في الشمال لم يكن مشجعًا للانتقال من المحمية إلى المستعمرة، والمنطقة بأكملها كانت شحيحية الموارد وصعبة المناخ وقاسية الحياة ومعدومة الحوافز في التخطيط للبقاء الأطول فيها والمناعة الثقافية لأهاليها كانت منيعة جدًّا، ومثّل حكمها في الشمال عبئًا إضافيًّا على خزينتها المالية، ولم يؤدِ وجودها إلى الإعمار، أو إنجاز مشاريع تنموية تعكس فترة وجودها التي تناهز سبعة عقود بشكل عام. ولقد كانت بريطانيا تنظر إلى وجودها المحدود في المنطقة الشمالية من باب صد الباب أو استباق وصول أي قوة أوروبية معادية للضفة المقابلة لمناطق تواجدها في عدن، وضرورة اقتصادية يقتضيها وجودها الأكثر أهمية لها في عدن بعد افتتاح قناة السويس لدرجة أنهم كانوا يسمونها “Aden Butcher shop” “محل جزار عدن” بسبب الاعتماد على اللحوم التي تزودهم بها محطتها الكبيرة في عدن.

وكانت حماية بريطانيا للشمال منحصرةً في الشؤون الخارجية والدفاع عن المحمية؛ حيث تمّ إخضاعها إلى أكثر من مكتب في عدن والهند، ثمّ في لندن لاحقًا لمكاتب مختلفة، وكانت تدعم توسع فتح مقرات حزب SYL (حزب وجدة الشباب الصومالي) في جميع الأراضي التي كان يسكنها الصوماليون في المنطقة بما في ذلك هرجيسا، ولم يكن عندها أي تحفظ في الانتقال البيني بين الصوماليين القاطنين في الجانب الإثيوبي أو الإيطالي إلى الشمال أو العكس، والتفاعل السياسي المنتظم القائم بين الأحزاب السياسية القائمة في الجنوب مع الأحزاب في الشمال، بل كانت تتفاوض مع إثيوبيا في الاتفاقيات الموقعة بينهما على ضرورة السماح للصوماليين بحرية الانتقال والعبور في الحدود المشتركة بينهما باعتبار أنهم رعاة ومشاة. وتتجاهل هرجيسا الحقيقة التاريخية التي تؤكد أن دور القيادات الحزبية الثلاثة (USP، SNL،NUF) والوفود الممثلة لأهل الشمال كان منحصرًا فقط في العمل على الترتيبات اللازمة لقضايا الوحدة المستقبلية، سواء مع الحكومة الإقليمية السائدة في الجنوب أو مع السلطات البريطانية في لندن، ولم تمارس أية مهام حكومية غير مهمة الوحدة، ولم يكن للشمال أية رموز حكومية خاصة بها، مثل: الدستور، والعلم، والشعار، والنشيد الوطني غير البرلمان الوليد النشأة من شهر فبراير 1960م. ومن هنا، ينبغي الإشارة إلى أن الحكومة التي ترأسها السيد عغال تمّ تشكيلها بعد استقلال الشمال بيوم واحد؛ أي يوم 27 يونيو، وتم حلهّا بعد الاستقلال فورًا بسبب انتفاء أسباب وجودها. ومن المؤكد كذلك أن الاستقلال والوحدة كانا مترابطين عند بريطانيا والقوى الحزبية السياسية في الشمال نفسها بأطيافها المختلفة، وكانت موافقة بريطانيا على منح الاستقلال للمحمية مرهونة بوحدتها المستقبلية مع الجنوب، وتؤكد زيارة المسؤول البريطاني في مقديشو قبل الاستقلال بشهور وحضور آدم عبد الله عثمان نفسه في عيد الاستقلال ورفع العلم في هرجيسا يوم 26 يونيو 1960م وجود ترتيبات وتوافقات سياسية مسبقة بين الجانبين، كما أن المراسلات المكتوبة المتبادلة بين الشمال والجنوب أو بين الشمال مع بريطانيا أو المشتركة بين حزبيSNL وSYL المرسلة إلى الأمم المتحدة ولندن تبين أقدمية الرغبة في الوحدة بين المنطقتين عن الاستقلال والوحدة المحققة بين الشمال والجنوب عام 1960م، ولذلك لا وجود لأي أثر تاريخي معتمد يفصّل استقلال الشمال عن الوحدة مع الجنوب.

3. رفض هرجيسا عين ما تعيبه على مقديشو

تحاجج هرجيسا في سرديتها السياسية في الغالب قبل القانونية على أنه لا توجد حجة أقوى من الإرادة المجتمعية المحلية القائمة في هرجيسا، وأنها انفصلت عن بقية الصومال طواعية، ولها دستور تمّ الاستفتاء عليه عام 2001 من قبل السكان المحليين. وتُرجع هرجيسا انفصالها عن الوحدة الطوعية التي دخلتها مع الجنوب إلى العنف والقتل المروع ضدها في أواخر الثمانينيات وممارسة سياسة الإقصاء والتهميش السياسي الممنهج ضدها. ومع صحة كثير من تلك الأمور، إلا أن إدارة موسي بيحي في هرجيسا (2017-2024م ) فعلت ما كانت تتهم به السلطة العسكرية من التدمير المروع والقتل الوحشي للمدنيين بقيادة سياد بري سابقًا بطريقة تفوق فيها مجالات التشابه مظاهر الاختلاف بينهما رغم الفارق في الدرجة وليس في النوع، ومارست الإدارات السابقة له نفس ما كانت هرجيسا تأخذه على السلطة العسكرية في مقديشو سابقًا، وهو التهميش والإقصاء في المنطقة الشمالية. وتشهد التقارير المستقلة التباين البائن بين تلك المناطق عما سواها في الشمال والشرق والغرب منذ العقود، وخاصة في مجالات التنمية والخدمات الاجتماعية وطريقة توزيع الموارد بشكل عام، وتوحي وفاة المئات من الضحايا في حرب لاسعانود الأخيرة، ونزوح قرابة ربع مليون نسمة في الفترة ما بين 2021-2023م. وإدارة خاتمو المعروف بـ SSC تأسست في مدينة لاسعانود عام 2023 التي هي العاصمة الإدارية لمحافظة سول سابقًا، وسكانها ينتمون إلى عشيرة ظلبهنتي القاطنة في محافظة سول وسناج وعين التابعة سابقًا لإدارة هرجيسا ما قبل تاريخ 2023م.

ومن المصادفة أن إدارة SSC تندرج ضمن الإطار الجغرافي الذي يدخل ضمن المحمية البريطانية سابقًا، وتقع في الجانب المتاخم مع الإقليم الجنوبي الخاضع للسلطة، وسكانها أرادوا الانضواء إلى مظلة الدولة الفيدرالية وإقامة سلطة قرينة للسلطات المحلية القائمة في البلاد وبعيدة عن التنازع القائم عليها بين بونتلاند وصوماليلاند منذ أكثر من عقدين، وهو ما يعد مصادفة تضع سردية هرجيسا في المحك أو على الأقل تجعل روايتها غير متكاملة الأركان، وخاصة في الجزئية الخاصة بالمظلومية، واللعب على وتر المظلومية والضحايا. وتؤكد SSC عدم مشاركتها مع هرجيسا في تأسيس سلطة انفصالية عن الدولة الأم منذ عام 1991م، ولا استفتاء في دستور2001 الذي تعتبره هرجيسا أساس الشرعية لكيانها الحالي، وتتمسك بدلاً من ذلك بالاستفتاء القومي الوحيد الذي أجري في أنحاء البلاد عام 1961 في عهد سلطة مدنية منتخبة حظيت بالشرعية التاريخية الأقوى في البلاد. وتبرّر لاسعانود انفصالها عن هرجيسا برفضها المبدئي بضرب الوحدة الوطنية أو القومية للصومال وعدم قبولها مبدأ الاستئثار بالسلطة والاستفراد بمزايا الحكم من قبل قبيلة معينة دون أخرى، وربما يشجعها على ذلك وجود تنقيبات بترولية على أراضيها، وخاصة في منطقتي “نغال” و”طررو”، تريد أن تكون هي المستفيد الأكبر في حال استخراجه، ويأسها من جدوى خيار التهدئة والوفاق مع هرجيسا بعد تنصل إدارتها من التفاهمات التي دخلتها مع خاتمو في فترة حكم سيلانيو 2016.

وعدم الانسجام في مفرادات السردية السياسية لهرجيسا يظهر أكثر حين الاستئثار لنفسها بمبدأ حق تقرير المصير في حالة فرضية عمله، ومنعها لاسعانود أن تتبناه لنفسها، ويتضح ذلك أكثر عند تشبثها بموقف انتماء أهاليSSC إلى سلطتها، ولا تعتبر ذرائع انفصالها من مقديشو مبررًا كافيًا لانفصال لاسعانود عنها. ورأينا منذ أيام، كيف أن هرجيسا كانت ترفض تواصل دولة الصومال مع الولايات المتحدة في مواني مثل بربرة، معلّلة بعدم الحضور الفعلي أو الحكم عليها، واعتراضها على زيارة رئيس الوزراء الحالي حمزة عبدي بري لمدينة لاسعانود الصومالية يوم 12 من الشهر الجاري من دون وجود أية سلطة تابعة أو حضور معين موالٍ لها منذ سنوات. وينتهي اكتمال ضعف السردية في تخوينها الدائم أو استنكارها شرعية الممثلين المنحدرين من المنطقة الشمالية في الدولة الفيدرالية، وتشدقها بشرعية الذين ينحدرون من لاسعانود رؤساء لمجلس الشيوخ وأعضاء في هيئاتها المختلفة وصولاً إلى اتهام من لهم صلة بالمآسي التي حدثت في عهد حكم العسكر بمجرد أنهم مسؤولون في الدولة الصومالية الحالية، وتبرئ الذين ينحدرون من عندها، والذين شاركوا فعليًّا في وقوع تلك المآسي، وتقبّلهم أن يكونوا قادة كبارًا في نظامها المحلي.

4. ديمقراطية وغير ديمقراطية

إحدى الأوراق التي سوقتها هرجيسا لنفسها للقوى الغربية أن إدارتها ديمقراطية، وتمتلك تجربة ديمقراطية يمكن الاقتداء بها وتطبيقها على بقية أجزاء الصومال. ولا يوجد شك في أن هرجيسا مارست الكثير من المعايير الديمقراطية المعروفة النمط في العالم الديمقراطي، ونجحت إلى حد كبير في بناء نموذج مستقر، وذلك في سياق تداول السلطة، والتعددية الحزبية، وعقد الانتخابات العامة بشكل منتظم، وهي كلها أمور يمكن إدخالها أو تدخل في الجوانب الإيجابية للتجربة الديمقراطية لديها. وإلى جانب ما يوجد من مؤشرات عديدة إيجابية في الأداء الديمقراطي لهياكل نظامها السياسي، فإن ثمة التباسًا ملحوظًا في تجربتها الديمقراطية، ومن ضمنها تقييدها لحرية الرأي أو عدم الاحترام لحرية الفكر السياسي، وتمديد الفترات لولايات الحكم، وعدم الالتزام بالأطر الزمنية للانتخابات المختلفة، ووجود مجلس الشيوخ المعروف بـ Guurtida غير المنتخب الذي يمارس سلطات تشريعية كاملة فوق السلطة المنتخبة الذي هو مجلس النواب (الوكلاء)، وذلك منذ تشكليه عام 1993م، وكذلك الاستخدام المفرط لقوة النيران ضد المتظاهرين في القضايا العامة المشتركة بين الجميع. وعلى سبيل المثل، لا تنظر هرجيسا إلى مسألة التعبير والإيمان بقضية الوحدة فيها على أنها حرية للفكر السياسي للمؤمنين بها، ولا تقبل أن يكون خيارًا سياسيًّا أو ديمقراطيًّا يمكن أن يعمل المقتنعون بها على أراضيها، بل تنظر إلى المؤمنين بها باعتبارهم خونة وتأخذهم إلى المحاكم، وترفع ضدهم تهم التخوين، وتقوم على الاعتقال التعسفي، مثل الذي حدث ضد السيد جامع محمد غالب في 2003 المعروف بسجله الوطني. ومنذ عام 2003- الذي كان فيه أول انتخابات رئاسية في هرجيسا- لا يوجد من بين الرؤساء الثلاثة من لم يمدّد ولايته الرئاسية لفترات أقلها سنتان، وتستخدم القوة المفرطة ضد المتظاهرين من أجل حرية الرأي، سواء في هرجيسا ولاسعانود، في قضايا عامة مختلفة، وهو تصرّف مرفوض في البيئات الديموقراطية عرفًا وممارسة، ولا يمرّ من دون محاسبة في حالة حدوثه المحتمل. والديمقراطية لا تعني فقط إجراء الانتخابات فحسب، وإنما تشمل احترام الحرية الفكرية والحرية في التظاهر والتجمع وتلبية المطالب المشروعة للمكونات الرئيسية التي تعيش في الإطار المشترك، ولا تستقر الديمقراطية في مدينة يغلب عليها طابع الأحادية في الفكر والرأي، ولا يوجد فيها التعددية في الفكر أو التنوع في الانتماءات السياسية.

خاتمة

يبقى ملف هرجيسا من الملفات التي تحتاج من الصومال والصوماليين إلى إيجاد حلول سياسية عملية، والصوماليون متعاطفون مع قضية أهل هرجيسا بشكل معاكس تمامًا على الطريقة التي يصوّرها البعض في الشمال، خصوصًا الذين يرون أن مستقبلهم السياسي مرهون بتشويه الحقائق أو إخفائها من الأساس. وتبقى صوماليلاند مكونًا رئيسيًّا من المكونات الجغرافية للصومال إلى أن تكون هناك ترتيبات سياسية مع مقديشو تؤدي إلى الاستقلال المتوافق عليه مثلما كان في عملية الوحدة الأبدية أو الاتحاد الطوعي الودي الذي تحقق في القرن المنصرم، ولا يوجد طريق أقرب من طريق المفاوضات المباشرة بين هرجيسا ومقديشو أو أيسر منه للوصول إلى تسوية مرضية بين الطرفين تجدّد ميثاق الوحدة أو تؤدي إلى وجود توافق بين مخرجات سليمة العواقب، بغض النظر عن الظروف المرحلية التي تمرّ بها الصومال في الوقت الحالي، كما لا توجد أية تجربة مماثلة نجحت في المسعى الذي تطمح إليه هرجيسا إلا ومرّت بهذا الطريق بدءًا من بنجلاديش مع باكستان إلى تيمور الشرقية مع إندونيسيا وصولاً إلى جنوب السودان مع السودان. ولقد كان الانفصال الأحادي المعلن عام 1991 يعد انقلابًا على روح الكفاح الوطني الذي خاضته الحركة الوطنية الصومالية SNM في الثمانينيات ضد حكم النظام الديكتاتوري بروح وحدوية، ويمثل خطفًا وأسرًا لنتائج الجهود التعاونية من قبل معظم القوى الوطنية والجبهات المسلحة ضد إسقاط النظام العسكري في البلاد بشهادة قيادتها، ويعكس ذلك توظيفًا سياسيًّا فئويًّا من قبل شخصيات سياسية لمصير قطاعات واسعة تعيش في الشمال، وهي قاعدة شعبية عريضة تنتظر لحظة ما، تعبّر فيها عن موقفها من خلال الصناديق عند توافر الأسباب اللازمة أو الميادين عند ضمان الأمان والحرية لهم أو هي تصل الحقيقة بنفسها مع الوقت دون التخوين أو فرض السردية غير الدقيقة ذات الطابع الأحادي. وكما كانت الوحدة بعد الاستقلال مسألة خلاف تفاوتت فيها وجهات النظر بين أبناء الشمال في طريقة التعامل معها- كما يبدو في الاستفتاء العام عام 1962- فإن مسألة انفصال هرجيسا عن الدولة الأم في مقديشو لم تعد قضية وفاق وتوافق بين أبناء الشمال إلى يومنا هذا، وعملية استفتاء دستور2001 التي تمّ إجراؤها في صوماليلاند تبرهن على امتناع قطاعات رئيسية منها في مشاركتها مبدئيًّا، وتؤشر على عمق هذا التفاوت في الآراء والمواقف فيما بينها، وتلك حقيقة يجب التوقف عندها وتأملها لبعض الوقت. والكل يعرف الفظائع والمآسي التي قام بها النظام العسكري في أواخر الثمانينيات في مدن ومناطق عديدة في الشمال، خصوصًا الذين عاشوا في وقتها أو تعرض ذووهم لهذا الألم الكبير، ولكن ما فعلته بعض قيادات SNM نفسها في مدينتي بورما ودلا عام 1991 (720 ضحية) أو ما فعله موسي بيحي في لاسعانود منذ عامين على مرأى ومسمع الجميع من القتل المروع وتدمير المرافق الخدمية بآلة عسكرية فتاكة وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها يعد قرينة على تلك المآسي نفسها من حيث النوع وليس الدرجة.

ويبدو أن بعض الحقائق والسرديات التي حبكتها هرجيسا لتبرير موقفها الانفصالي أو السعي إلى نيل الاعتراف بها على مدى العقود الماضية فيها الكثير من الصواب الذي جعل الناس يتعاطفون معها باستمرار، ولكن يسود فيها أيضًا طابع الاجتزاء للحقائق، والافتقار إلى مراعاة الصدق في الإنتاج والمصداقية في الصياغة، وهما ضروران لبناء الحجج القانونية عند العرض وصياغة السرديات السياسية عند التقديم، ولا أحد يمكن أن يوافق على الشراء من أن ما أريده من مقديشو لا أقبله لأحد لا من لاسعانود أو غيرها، وأن السردية التي أتبناها وأريد من العالم الاستماع إليها لا أحتاج إلى أي شاهد آخر أو جهة مستقلة غير نفسي أو أنا، وإن كان لابدّ منها فليكن فقط من أبوظبي وأديس أبابا وتل أبيب.

ولنا عودة إلى الموضوع.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن وجهة نظر كاتبه، ولا تعكس بالضرورة موقف مركز Afropolicy.

مذكرة التفاهم الجديدة بين اثيوبيا وصومال لاند

سيد عمر معلم عبد الله

مؤرخ ودبلوماسي صومالي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى