لقد شهدت القارة الإفريقية في الأشهر الأخيرة موجة من الانسحابات العسكرية الفرنسية، مما ولّد آمالًا بأن تكون هذه الخطوة بداية النهاية لعقود من الهيمنة الاستعمارية الجديدة. ففي 6 نوفمبر 2024م، أعلنت تشاد رسميا إنهاء اتفاقياتها الدفاعية مع فرنسا التي استمرت أكثر من 60 سنة، الأمر الذي أدّى إلى انسحاب حوالي 1,000 جندي فرنسي من الأراضي التشادية.
وبعد أسابيع قليلة، وتحديدا في 18 نوفمبر 2024م، تبعت السنغال هذا النهج؛ حيث أعلن الرئيس المنتخب حديثاً بشيرو جوماي فاي إغلاق جميع القواعد العسكرية الفرنسية في البلاد، مع توقع اكتمال الانسحاب بحلول نهاية عام 2025م. وبالمثل، أكّد رئيس ساحل العاج الحسن واتارا في 3 يناير 2025م قرب انسحاب القوات الفرنسية، بدْءًا من تسليم القاعدة العسكرية في بورت بوييه في أبيدجان إلى القوات الإيفوارية.
وتُعتبر هذه القرارات بالنسبة للكثيرين خطوة كبيرة نحو استعادة السيادة، وتعكس المشاعر المتزايدة المناهضة للاستعمار والدعوات لتقرير المصير عبر إفريقيا. ومع ذلك، فإنّ الانسحاب الفعلي للجنود الفرنسيين من هذه الدول يُعتبر رمزيّاً بلا شك؛ لكن الهياكل الأساسية للنفوذ والسيطرة على هذه الدول وغيرها من المستعمرات الفرنسية التاريخية لا تزال متجذرة، وبعمق. إذْ يثير استمرار هذه الآليات تساؤلات ملحة، يمكن إجمالها في التالي:
- هل يُمثل انسحاب القوات الفرنسية تحولاً حقيقيّاً في العلاقات الفرنسية الإفريقية، أم أنه مجرد انسحاب تكتيكي؟
- ماذا وراء الوجود العسكري، كيف تواصل فرنسا إحكام قبضتها على مستعمراتها السابقة؟
- ما التداعيات على مساعي إفريقيا لتحقيق سيادة حقيقية؟
للإجابة على هذه التساؤلات، سنناقش ثلاث نقاط رئيسة قد تُحدد هذه الزوايا المعقدة:
أولاً، النفوذ الاقتصادي لفرنسا، خصوصاً من خلال نظام الفرنك سيفا (العملة المحلية لأربعة عشر دولة في غرب إفريقيا ووسطها)، الذي يواصل خنق الاستقلال النقدي والتنويع الاقتصادي.
ثانيًا، الروابط الثقافية والسياسية التي تعززها فرنسا تَبْقى أداة قوية للنفوذ، مما يضمن حماية مصالحها الجيوسياسية حتى في غياب القوات.
ثالثاً، ديناميكيات الشراكات العالمية ومحاولات إفريقيا تنويع تحالفاتها تكشف عن فرص وتحديات في السعي لتفكيك الهياكل الاستعمارية الجديدة. فيما يلي، تفصيل ذلك.
أولا: القيود الاقتصادية وقبضة الفرنك سيفا
في صميم النفوذ الاقتصادي الفرنسي يكمن نظام الفرنك سيفا، وهو نظام نقدي طالما كان حجر الزاوية للسيطرة الاستعمارية بُعَيْد الاستقلال. حيث قُدِّم أول مرة عام 1945م، ويربط هذا النظام اقتصادات 14 دولة إفريقية بفرنسا؛ حيث يُطلب من هذه الدول إيداع 50% من احتياطياتها من العملات الأجنبية في الخزانة الفرنسية. هذا الترتيب، لا يحد من السيادة النقدية لهذه الدول فحسب؛ بل يضمن أيضا توافق سياساتها المالية مع المصالح الفرنسية.
ويبرهن المؤيدون لهذا النظام بأنّ نظام الفرنك سيفا يحقق الاستقرار الاقتصادي؛ لكن النقاد من جهة أخرى يشيرون إلى طبيعته التقييدية التي تخنق الابتكار والنمو الصناعي. إذْ يؤدي ربط الفرنك سيفا باليورو إلى تقليل القدرة التنافسية للصادرات الإفريقية عالميا، بينما يخلق في الوقت نفسه ظروفا مواتية للواردات الفرنسية. هذه الديناميكية تُكرس دورة من التبعية؛ حيث تكافح الدول الإفريقية لتنويع اقتصاداتها، وتقليل اعتمادها على الشركات الأجنبية.
فضلا عن ذلك، يُسهل النظام تدفقا مستمرا للثروات من إفريقيا إلى فرنسا، مما يعيد إنتاج الديناميكيات الاستغلالية للعهد الاستعماري. ويرى النُّقّاد أنّ هذا الهيكل المالي يُشكل حاجزاً أمام التنمية الحقيقية؛ حيث يُعطي الأولوية للاستقرار لصالح المستثمرين الخارجيين على حساب ازدهار المواطنين الأفارقة. وحتى الإصلاحات المقترحة، مثل الانتقال من الفرنك سيفا في غرب إفريقيا إلى عملة الإيكو، قد واجهت تأخيرات وشكوكاً، لأنها غالباً ما تفشل في معالجة الاختلالات النظامية التي تكمن في صميم هذا الإطار النقدي.
ويجسد نظام الفرنك سيفا كيف يمكن للسيطرة المالية أنْ تُبقي على قبضة الأمة المستعمرة السابقة، مما يخلق دورة تبعية يصعب كسرها. وبدون إصلاحات حاسمة، وتعزيز التعاون النقدي الإفريقي الداخلي، سيستمر هذا الأداة في عرقلة السيادة الاقتصادية للدول الإفريقية. وأبرز مثال حالة دول كونفيدرالية الساحل التي وجدت نفسها مكبلة بقيود اقتصادية وتعيش فوضى سياسية رغم مغادرة القوات الفرنسية لأراضيها منذ فترة.
ثانيا: التأثير الثقافي يَد فرنسا الخفية
على الرغم من انسحاب القوات الفرنسية، لا تزال الروابط الثقافية والسياسية التي تم ترسيخها على مدى عقود أداة قوية للحفاظ على النفوذ الفرنسي. فمن خلال المنظمة الدولية للفرنكوفونية، تواصل فرنسا الترويج للغتها وأنظمتها التعليمية، مما يشكل المشهد الثقافي والفكري في إفريقيا الفرنكوفونية. ويُعزز هذا التوجه إحساسا بالولاء لفرنسا، لا سيما بين النخب السياسية والمثقفين، مما يؤدي بشكل غير مباشر إلى ترسيخ المصالح الفرنسية في السياسات الوطنية.
وتُعزز الشركات الفرنسية متعددة الجنسيات هذا النفوذ من خلال هيمنتها على قطاعات حيوية، مثل الطاقة والاتصالات والبنية التحتية. فشركات مثل توتال إنرجيز وأورانج تسيطر على موارد وصناعات رئيسة، مما يُنتج اعتمادا اقتصاديا يؤثر بشكل غير مباشر على القرارات السياسية. وتجد الحكومات التي تعتمد على هذه الشركات لتحقيق إيراداتها واستقرارها التنموي نفسها مقيدة في اتباع سياسات قد تتعارض مع المصالح الوطنية.
كما تلعب وسائل الإعلام الفرنسية، مثل راديو فرنسا الدولي (RFI) التي تتوفر في موجة FM المحلية لكثير من الدول الإفريقية (الفرنكوفونية وغيرها)، وقناة فرانس 24، دوراً كبيراً في تعزيز الهيمنة الثقافية من خلال تشكيل الخطاب العام، وتعزيز الرؤى التي تتماشى مع الأهداف الجيوسياسية الفرنسية. وتعمل هذه المنصات كأدوات مزدوجة تقدم فرنسا كشريك لا غنى عنه، بينما تؤثر بهدوء على السرديات لتتماشى مع مصالحها. ويضمن هذا النهج الناعم أنْ يظل النفوذ الفرنسي متجذراً في النسيج الاجتماعي والسياسي لإفريقيا الناطقة بالفرنسية؛ حتى في غياب وجود مادي مباشر.
تاريخيًا، أظهرت فرنسا استعدادها للتدخل سياسيّاً لحماية مصالحها. فعلى سبيل المثال، في أزمة ساحل العاج عام 2011م، لعبت القوات الفرنسية دورا حاسما في تأمين رئاسة الحسن واتارا، وأبرزت مدى حرص فرنسا على حماية نفوذها. ومع أنّ التدخلات العسكرية المباشرة قد تصبح أقل تكراراً، فإنّ الشبكات التحالفية التي بنتها فرنسا مع النخب الإفريقية وعملياتها السرية تضمن استمرار حماية مصالحها الجيوسياسية.
ويمتد هذا النفوذ الثقافي والسياسي إلى ما هو أبعد من التدخلات المباشرة؛ حيث تشكل الروايات العامة بطريقة تخدم السياسات الفرنسية. ومن خلال السيطرة على جوانب رئيسية من الإنتاج الثقافي والرأي العام، تحتفظ فرنسا بقبضتها القوية على مستعمراتها السابقة، وإنْ كان ذلك بطرق أقل وضوحاً.
ثالثا: تحالفات جديدة وتحديات مستمرة
في سعيها للحد من الاعتماد على فرنسا، تعمل العديد من الدول الإفريقية بنشاطٍ على تنويع شراكاتها الدولية. فبرزت دول مثل الصين وروسيا وتركيا كبدائل للهيمنة الغربية التقليدية، مقدمة فرصاً جديدة للدول الإفريقية. فمن خلال مبادرة الحزام والطريق، مولت الصين مشاريع بنية تحتية كبيرة عبر القارة، مثل السكك الحديدية في كينيا، والمجمعات الصناعية في إثيوبيا. وتُعتبر هذه الاستثمارات أقل تدخلاً سياسيّاً مقارنة بالمساعدات الغربية، رغم استمرار المخاوف بشأن اعتماد الدول الإفريقية على الديون وغياب الشفافية.
كما وسعت روسيا نفوذها من خلال اتفاقيات التعاون العسكري، ومبيعات الأسلحة، وأنشطة شركات الأمن الخاصة مثل مجموعة الفيلق الإفريقي (فاغنر سابقا)، لا سيما في جمهورية إفريقيا الوسطى ودول الساحل مثل مالي وبوركينا فاسو؛ حيث تراجعت العلاقات التقليدية مع فرنسا. وفي الوقت ذاته، تعمقت تركيا في مشاركتها مع إفريقيا، وركزت على التجارة والبنية التحتية والتعليم، مما يضعها كشريك غير تقليدي خالٍ من إرث الاستعمار الطامع لما وراء العلاقات الثنائية.
ومع ذلك، فإنّ تنويع الشراكات ليس خاليا من التحديات؛ إذْ يظل خطر تكرار أنماط الاستغلال القديمة مصدر قلق، خاصة مع سعي الشركاء الجدد لتحقيق مصالحهم الجيوسياسية والاقتصادية. وقد حذر بعض القادة الأفارقة من مخاطر استبدال شكل من أشكال التبعية بآخر، داعين إلى تعزيز التعاون الإقليمي للتعامل بفعالية مع هذه الشراكات.
وفي هذا السياق، توفر المنظمات الإقليمية مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) والاتحاد الإفريقي منصات للدول الإفريقية لتنسيق استجاباتها، إلا أن الأولى فقدت جزء من مصداقيتها خلال أزمة دول الساحل الثلاث (مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو). كما تُظهر مبادرات مثل كونفدرالية الساحل الإمكانات الكبيرة للتضامن الإقليمي لمواجهة الضغوط الخارجية، وتعزيز الاعتماد على الذات. ومع ذلك، تواجه هذه الجهود انقسامات داخلية كبيرة، وقيودا في الموارد ومصالح متضاربة قد تُضعف التقدم الجماعي.
ولتحقيق أقصى استفادة من هذه التحالفات الجديدة، يجب على الدول الإفريقية التركيز على إقامة شراكات عادلة تُعطي الأولوية للتنمية المستدامة، والتجارة العادلة وتمكين المنطقة. فقط من خلال تحقيق توازن دقيق في المشاركة الخارجية يمكنها تجنب مخاطر التبعية، بينما تستفيد من الفرص الجديدة.
الخلاصة، كيف يزال ظل فرنسا شبه الدائم؟
يمثل انسحاب القوات الفرنسية من تشاد والسنغال وساحل العاج لحظة مهمة في مسيرة إفريقيا نحو السيادة. ومع ذلك، فإن الأنظمة الأعمق للسيطرة — الاقتصادية والثقافية والسياسية — لا تزال قائمة، مما يبرز تعقيد تفكيك الهياكل الاستعمارية الجديدة. حيث يكشف نظام الفرنك سيفا، والنفوذ المستمر للشركات الفرنسية، والشبكات المعقدة من الروابط الثقافية والسياسية، عن الطبيعة المتعددة الأوجه للحضور الفرنسي في إفريقيا.
ويبدو قرار فرنسا، أو قبولها بسحب قواتها العسكرية أقل كونه استسلاماً، وأكثر كونه تكيفاً مدروساً. فمن خلال فهمها العميق لتعقيدات مستعمراتها السابقة، قد ترى فرنسا أنّ سحب القوات يمثل خطوة استراتيجية، تُحَوِّل اعتمادها إلى أدوات أقل وضوحاً؛ ولكن لا تقل فعالية. فالنفوذ الاقتصادي، والهيمنة الثقافية، والمناورات السياسية الخفية تضمن احتفاظ فرنسا بسيطرة كبيرة على المنطقة، مما يجعل فكرة الخروج الفرنسي النهائي أمراً غير مرجح في المستقبل القريب.، دون أن تتدخل العناية الإلهية لتخلق الكرامات السياسية.
بالنسبة للدول الإفريقية، تؤكد هذه الحقيقة الحاجة إلى اليقظة، واتخاذ خطوات استراتيجية. لأنّ استعادة السيادة تتطلب معالجة المظاهر المرئية للاستعمار الجديد، وكذلك تفكيك الاعتماد الهيكلي الذي لا تزال فرنسا تستغله. وسيكون التعاون الإقليمي، والحوكمة المحلية القوية، وتنويع الشراكات عوامل أساسية لبناء مستقبل يمكن فيه للدول الإفريقية أن تؤكد استقلالها الحقيقي.
فالنضال لم ينتهِ بعد، بينما يمثل انسحاب القوات خطوة إلى الأمام، فإنه مجرد بداية لمعركة أطول، وأكثر تصميما للتحرر من ظل فرنسا شبه الدائم. إنّ مرونة إفريقيا، وابتكارها، والتزامها بتقرير المصير ستحدد الفصل التالي من هذه الرحلة التاريخية.
تحليلات المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات