في عام 2024م، قفزت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى إفريقيا إلى 97 مليار دولار، وهو أعلى مستوى مسجّل في تاريخ القارة، مدفوعة بعمليات اندماج واستحواذ كبيرة، وعودة الاهتمام الدولي بالموارد الاستراتيجية والبنى التحتية.
غير أنّ هذا الزخم العام، يخفي في طيّاته تراجعًا مقلقاً في تدفقات الاستثمار نحو المشاريع الجديدة، التي تقلّصت بنسبة 15%، فضلًا عن انكماش لافت في مشاريع التمويل البنكي عبر القارة.
فبينما تراجعت بعض القوى التقليدية عن صدارة المشهد، بدأت قوى إقليمية أخرى، من بينها دول مجلس التعاون الخليجي، في إعادة تموضع استراتيجي هادئ، يمزج بين النفاذ المالي والرؤية بعيدة المدى.
ليست هذه العودة الخليجية إلى إفريقيا مجرد تكرار لمحاولات سابقة؛ بل تعكس، في كثير من تجلياتها، فهماً جديداٍ للتحول الجاري في بنية الاقتصاد العالمي. حيث لم تعد المساعدات كافية، ولا الاستثمارات العابرة مجدية.
ومع تعاظم الحاجة إلى الأمن الغذائي، وندرة الموارد، وتحولات الطاقة، فإن القارة الإفريقية، بما تتيحه من فرص زراعية، ومعدنية، ولوجستية، تطرح نفسها اليوم بوصفها ساحة استراتيجية بامتياز، ليس للمنافسة الجيوسياسية فحسب؛ بل لإعادة تشكيل خريطة الشراكات التنموية.
وبناء عليه، ينطلق هذا المقال من هذه اللحظة الفارقة؛ ليقارب ملامح الحضور الخليجي في إفريقيا، ويتوقف عند الجغرافيا الاستثمارية الواعدة، قبل أنْ يعرض لشروط بناء شراكة استراتيجية أكثر توازنًا واستدامة.
الزخم الخليجي في المشهد الإفريقي
في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها الاقتصاد العالمي، لم يعد الحضور الخليجي في إفريقيا مجرّد مبادرات مشتتة، أو استجابات ظرفية؛ بل بات يتخذ ملامح استراتيجية أكثر وضوحاً، وإنْ ظلّ دون طموحات القارة وحجم إمكانياتها المتنوعة.
فالسنوات الأخيرة، ولا سيما بعد جائحة كوفيد-19، شهدت صعودًا لافتًا في استثمارات عدد من دول الخليج – وعلى رأسها الإمارات، والسعودية وقطر – في قطاعات حيوية على امتداد القارة، من القرن الإفريقي إلى غربها، ومن شمالها إلى قلبها النابض في الجنوب.
وفق تقرير “الفرص والتحديات في استثمارات الخليج في إفريقيا” الصادر عن مركز الخليج للأبحاث (2024)، سجّلت دولة الإمارات العربية المتحدة وحدها أكثر من 600 مشروع استثماري في إفريقيا خلال العقدين الماضيين؛ لتصبح أكبر مستثمر خليجي منفرد، خاصة في قطاعات الطاقة، والتعدين، والموانئ، والخدمات اللوجستية.
ويبرز في هذا السياق مشروع تطوير ميناء بربرة في الصومال من قبل شركة موانئ دبي العالمية، وهو مشروع لم يؤسس لبنية تحتية حديثة فحسب؛ بل أعاد رسم ملامح النفوذ البحري في القرن الإفريقي، في محيط يتسم بحساسية استراتيجية بالغة. هذه الخطوة، رغم تعقيداتها السياسية، تعكس فهماً إماراتيّاً لأهمية الممرات البحرية الإفريقية في سلاسل التوريد العالمية.
وفي المقابل، ركّزت المملكة العربية السعودية على الأمن الغذائي عبر استثمارات واسعة في الزراعة، لا سيما في السودان، وموريتانيا، ونيجيريا، وجنوب إفريقيا، إلى جانب مشاريع طاقة متجددة في مصر وكينيا بالشراكة مع شركات حكومية وخاصة.
وفي عام 2022م، أعلنت الرياض عن مبادرة بقيمة 10 مليارات دولار لتعزيز استثمارات صندوق الاستثمارات العامة في إفريقيا، وهو ما يعكس انتقالًا من الدعم الثنائي التقليدي إلى هندسة تمويل سيادي طويل الأمد.
أما دولة قطر، فقد تبنّت نهجاً أكثر تركيزاً؛ لكنه لا يقل طموحًا عن غيره، فاستثمرت في قطاعات الزراعة، والتعليم، والبنية التحتية، لا سيما عبر ذراعها الإنمائي “قطر للاستثمار” ومؤسسة “صلتك”، مع اهتمام خاص بدول غرب إفريقيا مثل السنغال ومال؛ حيث يتقاطع البعد التنموي بالبعد الجيوثقافي، والديني في أحيان كثيرة.
وفي الوقت الذي يبرز فيه الفاعل السيادي في دول كالسعودية وقطر، تهيمن الشركات شبه الحكومية والقطاع الخاص على الاستثمارات الكويتية والعُمانية، وإنْ كان بوتيرة أهدأ نسبيًّا.
ومع ذلك، فإنّ غياب التنسيق الجماعي بين الدول الخليجية المختلفة، يجعل من هذه الجهود، رغم أهميتها، أقرب إلى “زخم موزّع” أكثر من كونه استراتيجية استثمارية موحّدة، الأمر الذي يُضعف قدرتها على التأثير البنيوي في اقتصادات دول القارة.
إفريقيا، بتنوعها الجغرافي من الهضاب الإثيوبية إلى سهول النيجر، ومن سواحل المحيط الأطلسي إلى ممرات النحاس في زامبيا، لا يمكن اختزالها في “فرصة استثمارية” موحدة. بل إنّ ما تحتاجه اليوم هو رؤية خليجية تأخذ في الحسبان هذا التنوع العرقي، والثقافي، والتنموي، فتُعيد صياغة تدخلها الاستثماري ليكون أكثر تكاملًا وشمولًا، لا سيما مع تصاعد المنافسة الصينية والتركية والهندية.
إنّ ما بدأ كمبادرات مستقلة، قد بات مهيأ اليوم ليُبنى عليه مسار أكثر نضجاً، يوازن بين المصالح الاقتصادية والرهانات الجيوسياسية، ويمهّد الطريق لتوسيع خريطة الشراكة باتجاه المناطق الأكثر قابلية للنهضة والاستقرار، وهي النقطة التي سنقف عندها في المحور التالي.
فرص النمو في جغرافيا الاستثمار الإفريقي
إذا كان الزخم الخليجي المتزايد قد بدأ يُعيد تشكيل خريطة التواجد في إفريقيا، فإنّ السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه اليوم هو: أين تكمن الفرص النوعية القادرة على ترجمة هذا الزخم إلى أثر حقيقي؟
الإجابة، بطبيعة الحال، لا يمكن أنْ تكون عامة أو عائمة، لأنّ إفريقيا ليست كيانًا واحدًا؛ بل قارة متعددة الألسن والأنظمة والأولويات، تمتد من أرخبيلات صغيرة في المحيط الهندي، إلى سواحل الأطلسي في غرب القارة، ومن صحارَى الشمال إلى غابات السافانا الاستوائية في الجنوب.
وفي هذا المضكار، تشير بيانات تقرير الاستثمار العالمي لإفريقيا (الأونكتاد، 2025م) إلى أنّ شمال إفريقيا استحوذ على الحصة الكبرى من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر عام 2024م، بنحو 364 مليار دولار من إجمالي المخزون، وذلك بسبب، بعد فضل الله وتوفيقه، استقرار الإطار القانوني والمؤسسي نسبياً في دول مثل مصر والمغرب وتونس.
في المقابل، لا تزال دول غرب إفريقيا – رغم هشاشة بعض أنظمتها – تُمثّل ساحةً واعدة للاستثمار في الزراعة والبنية التحتية، مدفوعة بالكثافة السكانية واتساع السوق الاستهلاكي، خاصة في نيجيريا وغانا والسنغال.
أما شرق إفريقيا، فتمثّل “بوابة المحيط الهندي” وممرّاً استراتيجيّاً للأسواق الآسيوية، وتُظهر دول مثل كينيا وتنزانيا قدرة متقدمة على استيعاب الاستثمارات في مجالات التحول الرقمي والطاقة الخضراء. وقد بدأتْ بالفعل مؤسسات خليجية، مثل “مصدر” الإماراتية، و”أكوا باور” السعودية، في توطين مشاريعها هناك.
ورغم تراجع تدفقات الاستثمار في دول وسط إفريقيا، كما تُظهر الأرقام بانخفاض تجاوز 70% في مشاريع جديدة، فإنّ دولًا مثل تشاد والكونغو الديمقراطية تمتلك إمكانات خام نادرة، خاصة في المعادن الخضراء، وتنتظر من يقرأها قراءة استراتيجية بعيدة النظر.
فمن حيث القطاعات، بات من الواضح أنّ المجالات ذات العوائد المزدوجة – المالية والتنموية – هي الأنسب للمستثمر الخليجي طويل النفس. وتشمل هذه القطاعات، ما يلي:
• الطاقة المتجددة، حيث الطلب يتضاعف سنويّاً في أكثر من 20 دولة إفريقية تعاني من فجوات كهربائية مزمنة.
• الخدمات اللوجستية والموانئ، نظرا لحاجة القارة إلى الربط الداخلي والإقليمي (ويكفي أن نعلم أنّ 80% من التجارة الإفريقية تمر عبر موانئ غير مؤهلة بالمعايير الدولية).
• الصناعات الغذائية والزراعية، خاصة في منطقة الساحل وحوض النيل؛ حيث الفرص هائلة إن توفرت بنية تحتية داعمة.
• التحول الرقمي، مع بروز أسواق جديدة للمدفوعات الإلكترونية والتعليم والتجارة عبر الهاتف المحمول في دول مثل رواندا وكينيا ونيجيريا.
هذا التنوع الجغرافي والقطاعي لا يدع مجالًا للنهج العابر أو العشوائي في الاستثمار؛ بل يدعو إلى بناء شراكة مرنة تحترم خصوصية كل دولة ومجتمع محلي، وتندمج مع أولوياته، لا أن تفرض عليه أجندة خارجية. وهنا تبرز الحاجة إلى مقاربة أكثر وعيًا بـ “التحولات تحت السطح“، أيْ تلك الديناميات الصامتة التي لا تلتقطها الأرقام وحدها، كشبكات النفوذ، وحساسيات الهوية، ورهانات الشباب.
إنّ القراءة العاقلة لجغرافيا الاستثمار الإفريقي لا تكتفي بتحديد الفرص؛ بل تسأل دائماً: ما الذي يجعلها تدوم؟ وهنا، تفتح أمامنا باب النقاش حول شروط الاستدامة في الشراكة الخليجية الإفريقية، والتي ستكون محطّ تركيز لاستثمارات جادة.
شروط الاستدامة في الشراكة الخليجية الإفريقية
لكي تتجاوز الاستثمارات الخليجية في إفريقيا حدود “الفورة الظرفية“، لا بُدّ أنْ تُؤسَّس على ركيزتين جوهريتين أساسيتين، وهما: فهم عميق لسياق القارة، ومأْسَسَة مرنة لعلاقة طويلة الأمد. فالعائد الاستثماري المستقر لا يتحقق بمجرد توفر رأس المال؛ بل يتطلب هندسة ذكية للثقة، تحترم التعدد الإفريقي، وتُحسن قراءة تحدياته المعقدة.
وفي هذا النسق، تشير تقديرات مؤسسة تمويل إفريقيا Africa Finance Corporation (2025) إلى أنّ القارة تحتاج سنويًا إلى استثمارات تتراوح بين 130 و170 مليار دولار لسدّ فجوة البنية التحتية، في حين أنّ الفجوة التمويلية الحالية تتجاوز 68 مليار دولار سنويًا.
لا يمكن مِلْئُ هذا العجز عبر القروض السيادية، أو المساعدات التقليدية؛ بل من خلال شراكات إنتاجية تجمع بين القطاعين العام والخاص، وتُبنَى على قواعد حوكمة واضحة.
ولعل الشرط الأول للاستدامة هو: الشفافية، وتقليص البيروقراطية. فما يزال متوسط الوقت اللازم لتأسيس مشروع استثماري في العديد من الدول الإفريقية يتجاوز 60 يوماً، في مقابل أقلّ من 10 أيام في بعض الدول الخليجية.
كما أنّ ضمان الحقوق القانونية في حالات النزاع التجاري يبقى هشّاً في أنظمة قضائية تعاني من البُطْء أو التدخلات السياسية. لذلك، فإنّ دعم الحكومات الإفريقية لإصلاح بيئات الأعمال يجب أنْ يُقابل بمبادرة خليجية لتوفير اتفاقيات حماية وتشجيع الاستثمارات المتبادلة، تكون مرنة لكنها ملزمة.
ثانيًا، تُعدّ الشراكة مع المؤسسات الإفريقية القارية أداة استراتيجية لتقليل المخاطر، وزيادة فاعلية رأس المال الخليجي. فمؤسسات مثل البنك الإفريقي للتصدير والاستيراد (Afreximbank)، ومؤسسة تمويل إفريقيا، والوكالة الإنمائية للاتحاد الإفريقي ليست مجرد أطراف تمويلية؛ بل تمثل فهماً مؤسسياً عميقاً للواقع المحلي، يمكن أنْ يساعد على تخصيص الموارد، وتوجيه المشاريع إلى مناطق محرومة، وتنظيم المشاريع العابرة للحدود.
أما من جهة دول الخليج، فإنّ دخول جهات سيادية، مثل: صندوق الاستثمارات العامة السعودي، “مبادلة“، و”شركة القابضة ADQ” أبو ظبي، وصندوق قطر للاستثمار إلى المشهد الإفريقي، يمنح الاستثمارات بعداً أكثر احترافًا ومرونة. غير أنّ هذا الدور، لن يُترجم إلى أثر مستدام ما لم يُربط بمشاريع تنموية حقيقية في مناطق اقتصادية خاصة، وبوابات لوجستية ذكية، ومحطات طاقة مدمجة، أو ممرات زراعية–صناعية عابرة للحدود.
وفي المحصلة، إنّ استدامة الشراكة ليست تعبيرًا عن النوايا الطيبة فحسب، بل عن قدرة على قراءة الزمن الطويل. وإفريقيا لا تطلب من شركائها أكثر من ذلك، أنْ يلتزموا معها لا بها، وأنْ ينظروا إليها كصاحبة مستقبل لا كمنجم موارد مؤقت.
الخاتمة
ليستْ إفريقيا هامشاً جغرافيّاً في خريطة الاستثمار العالمي؛ بل قلباً نابضًا لإمكانات لم تُستنفدْ بعد، وقارة تنهض لا لتلحق بركب الآخرين فحسب؛ بل لتعيد تعريفه. وفي خضم هذه اللحظة الدولية المعقّدة، التي تتشابك فيها رهانات الغذاء والطاقة وسلاسل الإمداد، لا يبدو الحضور الخليجي في إفريقيا ترفاً دبلوماسيّاً؛ بل خياراً عقلانيّاً نابعاً من رؤية استراتيجية تستشرف التحولات الدولية والإقليمية لا لتلاحقها.
ولقد أثبتت التجربة الخليجية، من الرؤى الوطنية الطموحة إلى الهندسة المالية السيادية، قدرة فريدة على المزج بين الواقعية الاقتصادية والجرأة التنموية. وهذه القدرة، إذا ما وُجهت نحو إفريقيا بتأنٍّ واحترام، يمكن أنْ تُثمر تحالفاً تاريخيّاً يقوم على التكامل لا التبعية، وعلى البناء لا الاستنزاف. فدول القارة لا تطلب شريكاً يُغدق؛ بل شريكاً يُصغي، يفهم نُسُجها الاجتماعية، ويفكك تعقيداتها بثقة لا بتهور.
لذلك، فإن الاستدامة الحقيقية لهذا الحضور الخليجي تستوجب توفر التالي:
• هندسة جماعية للاستثمار الخليجي في إفريقيا، تتجاوز الاجتهادات المنفردة إلى عمل مؤسسي منسق.
• إعادة توجيه الصناديق السيادية نحو مشاريع تحوّلية تُعيد إنتاج القيمة داخل إفريقيا، لا تصدّر خاماتها.
• ترسيخ الاستثمار في الإنسان الإفريقي، باعتباره الأصل الأكثر عائدًا والأقل مخاطرة على المدى البعيد.
• إقامة شراكات ثلاثية ذكية تجمع الخليجي والإفريقي والمؤسسة القارية، لصياغة نماذج تنموية لا تنسخ الماضي؛ بل تُبدعه.
إنّ مستقبل إفريقيا لن يُكتب فقط بالتمويل؛ بل بمن يعتقد أنّ رأس المال بلا رؤية لا يبني، وأنّ التأثير الحقيقي لا يتحقق إلا حين يصبح الاستثمار مرآة لاحترام متبادل، وطُموح مشترك، ووعي بأنّ الزمن القادم لا يُصنع من عن بُعُد؛ بل من الداخل.
_________________ إهـ __________________
تحليلات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات