تحليلات

تأميم اليورانيوم في النيجر: لحظة مفصلية في فك الارتباط مع باريس

في خطوة جريئة، تعكس التحولات المتسارعة في المشهد الجيوسياسي الإفريقي، أعلنت السلطات النيجرية، يوم الخميس 20 يونيو 2025، قرارها بتأميم شركة “سومير ” (Somaïr)، المشروع المشترك القائم بين الحكومة النيجرية وشركة أورانو” (Orano) الفرنسية، والتي تُعد من أبرز الفاعلين في قطاع اليورانيوم بالبلاد. [1]

جاءتْ هذه الخطوة بعد سلسلة من التوترات التي بدأت منذ الانقلاب العسكري في 26 يوليو 2023، الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم، ووضعت البلاد على مسار جديد من إعادة صياغة علاقاتها مع القوى الغربية، لا سيما فرنسا.

فالحكومة النيجرية بررت قرارها باتهام شركة أورانو – المملوكة جزئيًا للدولة الفرنسية – بـ “السلوك غير القانوني وغير العادل”، وادعتْ أنها كانت تحصل على نسبة غير متوازنة من إنتاج اليورانيوم، إضافة إلى اتهامات أخرى وُصفت بأنها “تصرفات غير مسؤولة”، دون تقديم تفاصيل إضافية.

ويُشار إلى أنّ “سومير” تُعد المنجم الوحيد النشط حاليًا في البلاد، في حين تم تعليق مشروع “إيمورارن” (Imouraren) الضخم سابقًا، والذي قُدّرت احتياطاته بأكثر من 200 ألف طن من اليورانيوم.

لم يقتصر التصعيد على المجال الاقتصادي فحسب؛ إذ دخل في إطار صراع قانوني وقضائي معقّد؛ حيث قامت أورانو برفع دعوى تحكيم دولي ضد النيجر عقب اختفاء مديرها المحلي، ومداهمة السلطات لمقرات الشركة في نيامي.

وفي المقابل، تؤكد النيجر على أنها تُمارس “حقها السيادي الكامل”، وأنّ ما جرى هو مراجعة لعقود وامتيازات كانت مجحفة وغير متوازنة منذ عهد الاستعمار الجديد، على حد وصف بعض المسؤولين العسكريين.

والقرار يعكس أيضًا تحولًا جذريّاً في سياسة الموارد الطبيعية لدول الساحل، وخاصة النيجر، ومالي، وبوركينا فاسو، والتي تُظهر جميعها رغبة متزايدة في تفكيك النفوذ الفرنسي التاريخي في القطاعات الحيوية، خاصة بعد أن أصبحت المنطقة تميل إلى شراكات جديدة مع قوى غير غربية مثل روسيا وتركيا والصين.

وقد سبق أن أعلن المجلس العسكري في نيامي عن رغبته في إعادة التفاوض حول جميع الاتفاقيات الخاصة بالثروات المعدنية، بما يضمن استفادة أكبر للاقتصاد الوطني.

ومع أن النيجر تُعد من أكبر منتجي اليورانيوم في العالم (المرتبة السابعة عالميًا بحسب بيانات 2023)، فإنّ استفادتها الداخلية من هذا المورد ظلت محل انتقاد، وسط غياب البنية التحتية المناسبة، وانتشار الفقر في مناطق التعدين مثل “أرليت” و”أغاديز”. ويرى مراقبون أن هذا التأميم يمثل اختبارًا لقدرة الدولة على إدارة هذا المورد الاستراتيجي بشكل مستقل، دون الاعتماد على الخبرات الغربية.

فالقرار النيجرى إذاً، لا يُمكن قراءته فقط كإجراء داخلي تقني؛ بل باعتباره إعادة تشكيل للعلاقة بين الدولة والمستثمر الدولي، خاصة في ظل التغيرات الإقليمية المتسارعة، والتراجع الحاد في الثقة بين باريس ونيامي منذ الانقلاب العسكري.

وبينما ترى الحكومة في التأميم تصحيحًا لمسار غير عادل، ترى فرنسا فيه إشارة إضافية على تآكل نفوذها التقليدي في واحدة من أهم مناطق نفوذها التاريخي في إفريقيا.

وفي ظل تعقيد الملف، وارتباطه بملفات أمنية وسياسية أوسع، يبقى التساؤل مفتوحًا: هل يمثل هذا التأميم بداية لاستقلال حقيقي في إدارة الموارد؟ أم أنه مقدمة لمواجهة طويلة مع الغرب في ساحة من أكثر الساحات الجيوسياسية هشاشةً وتعقيدًا؟

ولفهم أبعاد هذا الحدث وما يحمله من دلالات سياسية واجتماعية، يمكن مقاربته من ثلاث زوايا مختلفة، ألا وهي: الاستقلال السيادي باعتباره جوهر الصراع، وتفكك الامتيازات الفرنسية في منطقة الساحل، ثم دور الموارد الاستراتيجية في إعادة تشكيل العقد الاجتماعي داخل الدولة.

أولا: الاستقلال السيادي جوهر الصراع

تمثل خطوة تأميم مشروع “سومير” لحظة رمزية ثقيلة الدلالة في سياق سعي النيجر – ومجموعة دول الساحل عمومًا – إلى استعادة القرار السيادي على مواردها الطبيعية، بعد عقود من الشراكات غير المتكافئة. هذا القرار لا يُقرأ فقط كخطوة اقتصادية؛ بل هو في جوهره إعلان سياسي بتغيير قواعد اللعبة مع الشركاء الدوليين، وتحدٍ مباشر لنموذج الهيمنة الفرنسية الذي ظل مهيمنًا على قطاع التعدين منذ مرحلة ما بعد الاستعمار.

وتعكس هذه الخطوة رغبة المجلس العسكري الحاكم في نيامي، والذي تسلّم السلطة بعد انقلاب 2023، في إعادة تعريف العلاقة بين الدولة النيجرية والشركات الأجنبية العاملة في البلاد، على أساس المصلحة الوطنية وليس الامتيازات التاريخية. ويأتي هذا التوجه في ظل تصاعد خطاب السيادة الاقتصادية الذي بات جزءًا من المشهد السياسي في دول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

لكن هذا الطموح السيادي يواجه تحديات واقعية معقدة، فإدارة قطاع اليورانيوم ليست مجرد قرار سياسي؛ بل تتطلب بنى تحتية، وكفاءات بشرية، وتقنيات متقدمة يصعب توفيرها داخليّاً في المدى القريب. ومن هنا، فإن نجاح النيجر في ترجمة هذه الخطوة إلى مكاسب اقتصادية ملموسة سيكون المعيار الحقيقي لحجم استقلالها الاقتصادي الجديد.

ورغم ما قد يُفهم من هذه الخطوة كتصعيد أحادي، فإنّ السياق الأوسع يشير إلى تحول جذري في المزاج السياسي الإقليمي، حيث أصبح خطاب “السيادة الكاملة” عنوانًا لتجربة حكم جديدة تتجاوز الجانب الرمزي نحو محاولة التأسيس لنموذج شراكات جديدة، أكثر تنوعًا وتعددًا، بعيدًا عن المركزية الفرنسية القديمة.

ثانيا: تفكك الامتيازات الفرنسية في الساحل

ويمثل القرار النيجرى ضربة موجعة جديدة لفرنسا التي تفقد تدريجيًا أدوات تأثيرها في غرب إفريقيا، لا سيما في الدول التي شهدت تحولات سياسية جذرية. إذْ فقدت باريس خلال العامين الماضيين قواعد عسكرية، وواجهت انسحاب قواتها من النيجر ومالي، والآن تواجه خطر فقدان نفوذها الاقتصادي، وهو الأخطر والأعمق على المدى الطويل.

إنّ شركة “أورانو“، التي كانت تعرف سابقًا باسم “أريفا“، ليست مجرد شركة تعدين؛ بل هي امتداد استراتيجي للدولة الفرنسية في منطقة تعتبرها ضمن “مجال نفوذها الحيوي”. وقد كانت السيطرة على مناجم اليورانيوم في النيجر بمثابة ضمانة غير مباشرة لاستقرار تزويد فرنسا بالطاقة النووية، وهو قطاع حساس ضمن أمنها القومي.

ولذلك فإنّ خسارة أورانو لموقعها الحصري في “سومير” و”إيمورارن” يمثل إعادة ترسيم لخرائط المصالح الفرنسية في قلب القارة.

ومن ناحية أخرى، يدفع هذا التراجع فرنسا نحو إعادة التفكير في آليات تواجدها الإفريقي، حيث لم تعد الشعارات التقليدية عن “الشراكة من أجل التنمية” تقنع الأجيال الجديدة من صناع القرار في دول الساحل.

ويزداد الإحراج الفرنسي مع كل خطوة تتخذها نيامي أو واغادوغو أو باماكو لإبعاد النفوذ الفرنسي، خاصة عندما تكون مبررة بعبارات قانونية أو اقتصادية تُصعّب مناصرتها علنًا على المستوى الدولي.

لكن في المقابل، فإن فقدان فرنسا لمواقعها لا يعني بالضرورة بناء شراكات متكافئة جديدة، بل قد يُسفر عن فراغ جيوسياسي تسارع قوى أخرى لملئه، مثل روسيا وتركيا والصين، دون أن تكون هذه البدائل بالضرورة أكثر شفافية أو تنميةً. والسؤال الأهم هنا، هو: هل تستطيع الدول الإفريقية إعادة صياغة شراكاتها من موقع القوة أم أنها تنزلق من هيمنة إلى أخرى؟

ثالثا: الموارد كأدوات إعادة تشكيل العقد الاجتماعي

أحد الجوانب المغفلة في تحليل أزمة “سومير” هو البعد الداخلي المتعلق بكيفية استخدام الموارد الاستراتيجية كأداة لإعادة تشكيل العقد الاجتماعي داخل الدولة. فالنيجر، رغم ثروتها باليورانيوم، تظل واحدة من أفقر دول العالم، وتواجه تحديات هائلة في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية، ما يثير تساؤلات مستمرة حول مصير العائدات التعدينية ومدى استفادة المواطنين منها.

ومنذ تولي المجلس العسكري الحكم، أصبح الخطاب السياسي يُركّز بشكل متزايد على العدالة الاقتصادية، ومحاسبة “عقود الامتياز غير المتوازنة”. وبالتالي، فإن قرار التأميم ليس مجرد رسالة للخارج؛ بل هو تعهد ضمني للجمهور المحلي بأن الثروات الوطنية ستُدار بطريقة جديدة، تُفضي إلى تحسين ظروف المعيشة وخلق فرص تنموية عادلة.

لكن تنفيذ هذه الوعود يواجه معضلة مزدوجة. من جهة، ضعف الخبرات المحلية في إدارة سلاسل التوريد الصناعية المعقدة، ومن جهة أخرى، خطر تسييس القطاع وتوظيفه في إطار شعبوي يغيب عنه التخطيط الاستراتيجي. لذلك، فإن النجاح في مرحلة ما بعد التأميم يتوقف على قدرة النيجر على بناء شراكات فنية واقتصادية بديلة، وتفعيل نظم الشفافية والمحاسبة داخليًا.

وأخيرًا، فإن تأميم “سومير” يشكل لحظة فارقة يُمكن أنْ تفتح الباب أمام نقاش أوسع حول العدالة في توزيع الثروات المعدنية في إفريقيا جنوب الصحراء، والانتقال من نمط الدولة الريعية المرتبطة بالشركات الأجنبية إلى نموذج إنتاجي يعيد ربط الموارد بمصالح السكان، لا بمراكز القوة الخارجية.

هذا التحدي لا يخص النيجر وحدها، بل يمثل قضية مركزية في مستقبل الحوكمة الاقتصادية للقارة.

[1] https://www.africanews.com/2025/06/20/niger-to-nationalize-uranium-venture-operated-by-frances-orano/

_________________ إهـ __________________

تحليلات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى