تحليلات

جولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي الأفريقية

الاستراتيجيات الصينية والقضايا الجيوسياسية في أفريقيا"

تأتي جولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي في عدد من دول الإفريقية مطلع سنة 2025 ضمن التقليد السنوي للديبلوماسية الصينية التي تقوم بها الصين منذ 35 عاما ومن خلالها تؤكد على التزامها الاستراتيجي تجاه القارة الإفريقية. وتهدف هذه الجولة السنوية إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية وتوسيع نفوذها الجيوسياسي وتلبية احتياجات البلدان الأفريقية. وعبر الاستثمارات ومشاريع البنية الأساسية والدعم اللوجستي، تعمل بكين على تعزيز مكانتها كشريك رئيسي في التنمية الأفريقية. وتعكس هذه الزيارة الأخيرة من يوم 6 يناير حتى 11 منه، والتي شملت دولا  استراتيجية مثل ناميبيا والكونغو برازافيل وتشاد ونيجيريا، أهدافا متنوعة: استغلال الموارد الطبيعية، والتنمية المستدامة، وإدارة الديون. وتوضح هذه المبادرة أيضا المنافسة المتزايدة مع القوى الغربية، مما يعزز مكانة الصين في أفريقيا مع تكييف طموحاتها مع الحقائق الاقتصادية والسياسية الماثلة.

السياق والأهداف:

التقاليد الدبلوماسية والتعاون الاقتصادي:
دأبت الصين في مطلع كل عام وبشكل روتيني بجولة في أفريقيا، وهو ما يعكس تقليدا دبلوماسيا مستمرا منذ عقود. ويؤكد هذا الاختيار الاستراتيجي لأهمية القارة بالنسبة لبكين، ليس فقط باعتبارها شريكا اقتصاديا رئيسيا، بل أيضا باعتبارها ركيزة أساسية لنفوذها الجيوسياسي. ويوفر منتدى التعاون الصيني الأفريقي منصة مركزية لهذه العلاقة، ويساعد على تحديد الأولويات المشتركة في التجارة والبنية الأساسية والتنمية المستدامة. ومنذ عام 2000 مكن هذا التعاون الصين من تأكيد نفسها كلاعب رئيسي في تمويل المشاريع الأفريقية، وخاصة في مجال البنية التحتية. ومع ذلك، أدى الوباء كوفيد إلى إعادة التوجيه الاستراتيجي، مع تمويل أكثر استهدافا وتركيز متزايد على المشاريع المستدامة والمجدية اقتصاديا. وتسعى بكين إلى الحفاظ على صورتها كحليف للدول النامية، في حين ترد على الانتقادات الدولية للديون الأفريقية. ويشير هذا التقليد الدبلوماسي، إلى جانب المبادرات الاقتصادية، إلى طموح بكين المتمثل في تعزيز الشراكات طويلة الأمد، وتعزيز التجارة، ومواجهة النفوذ المتزايد للقوى الغربية. ويسمح هذا النموذج للصين أيضا بتأمين الوصول الاستراتيجي إلى الموارد الطبيعية الضرورية لاقتصادها. وفي هذا الإطار تتنزل الجولة التي قام بها وانغ يي وزير الخارجية الصيني إلى إفريقيا خلال الأسبوع الأول من 2025.

ناميبيا: موارد اليورانيوم والطاقة المتجددة:

 تشكل ناميبيا أهمية استراتيجية بالنسبة للصين بسبب احتياطياتها الكبيرة من اليورانيوم، والتي تعتبر ضرورية لتشغيل أسطولها النووي المتنامي. وتعد البلاد موطنا لمناجم كبيرة، مثل منجم هوساب، الذي تديره شركة صينية، وهو أحد أكبر المناجم في العالم. وبالإضافة إلى اليورانيوم، تتمتع ناميبيا بإمكانات كبيرة في مجال الطاقة المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وهو المجال الذي تريد الصين أن تصبح أكثر مشاركة فيه لتنويع محفظة الطاقة الخاصة بها في أفريقيا. وتأتي هذه الزيارة في إطار الرغبة في تعزيز الشراكات الاقتصادية واستكشاف فرص استثمارية جديدة.

وعلى الصعيد الدبلوماسي، تسعى بكين إلى تحقيق تعاون “مربح للجانبين”، وتسعى إلى دمج مشاريع الطاقة الناميبية في مبادرة الحزام والطريق. لكن هذا الحضور لا يخلو من إثارة الانتقادات، وخاصة فيما يتصل بالتأثير البيئي لمشاريع التعدين واعتماد ناميبيا الاقتصادي على الصين. وتسلط الزيارة الضوء على طموحات بكين في تأمين الموارد الاستراتيجية مع تعزيز التحول في مجال الطاقة، وتعزيز دورها كشريك رئيسي في التنمية المستدامة في البلاد.

الكونغو برازافيل:

تتمتع الصين والكونغو برازافيل بعلاقات قوية، ترتكز على مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق. ومن بين هذه المشاريع إعادة تأهيل خط السكة الحديدية الكونغو-المحيط، وهو أمر ضروري لربط المناطق الريفية بالأسواق الحضرية، وهو ما يرمز إلى تأثير الاستثمارات الصينية. وتُعد شبكة الكهرباء مشروعًا رئيسيًا آخر، وتُظهر أيضًا التزام الصين بتحديث البنية الأساسية الحيوية. ويعزز دور برازافيل كرئيس مشارك لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي حتى عام 2027 أهميتها الاستراتيجية بالنسبة لبكين.

الهدف الرئيسي من هذه الزيارة هو ضمان استمرارية هذه المشاريع مع تعزيز أسس التعاون المعزز. وتعتمد بكين على نهج عملي: الحفاظ على مستوى عال من الالتزام، على الرغم من خفض إجمالي القروض. ومع ذلك، لا تزال الانتقادات الموجهة إلى الديون الكونغولية والاعتماد الاقتصادي على الصين تشكل تحديات. وتظهر هذه الزيارة الرغبة في إعادة التوازن للعلاقات، من خلال تعزيز المشاريع المستدامة ودعم التنمية طويلة الأمد في الكونغو. وتنظر الصين أيضًا إلى هذه الشراكة باعتبارها فرصة لتعزيز نفوذها في الدول الناطقة بالفرنسية في إفريقيا.

تشاد: مرحلة اتسمت بالقضايا السياسية:

وتعكس الزيارة إلى تشاد بعدا سياسيا مهما للدبلوماسية الصينية في أفريقيا. تواجه تشاد، التي تقع في منطقة غير مستقرة في الساحل، تحديات كبرى تتعلق بالأمن والحوكمة والتنمية الاقتصادية. ورغم أن البلاد لا تعد شريكا اقتصاديا كبيرا مثل الدول الأفريقية الأخرى، إلا أنها تحتل موقعا استراتيجيا بالنسبة للصين بسبب دورها في مكافحة الإرهاب ونفوذها الإقليمي. كما أن هذه الزيارة تندرج ضمن تحول مهم جدا في السياسة التشادية بعد إلغائها ما يعرف بالاتفاق العسكري مع فرنسا ومغادرة الجيش الفرنسي لتشاد. وهو ما يعتبر فرصة في غاية الأهمية للصين لطرح نفسها كبديل عن باريس وشريك لتشاد خاصة فيما يتعلق بالتحديات الأمنية والعسكرية.

وهو ما ركزت عليه المناقشات خلال الزيارة في تعزيز التعاون الثنائي في مجال الأمن والتنمية. وتقدم الصين الدعم اللوجستي والفني، بما في ذلك من خلال التدريب العسكري، لمساعدة تشاد على تحقيق الاستقرار في منطقتها. وبالإضافة إلى ذلك، تسعى بكين إلى دمج تشاد في مشاريعها الإقليمية لتطوير البنية التحتية والطاقة المتجددة. بيد أن القضايا السياسية الداخلية، مثل عملية الانتقال بعد ديبي والتوترات الاجتماعية، تؤدي إلى تعقيد الوضع. وتؤكد هذه الزيارة على النهج المتوازن الذي تنتهجه الصين، والتي تسعى إلى وضع نفسها كلاعب رئيسي في عمليات الاستقرار والتنمية في تشاد ومنطقة الساحل.

نيجيريا: شريك رئيسي في موارد النفط والغاز:

تعد نيجيريا، أكبر اقتصاد في أفريقيا وأكبر منتج للنفط في القارة، شريكا استراتيجيا للصين. فالعلاقات الثنائية بين البلدين مبنية على التجارة الضخمة، حيث تعد بكين مستوردا رئيسيا للنفط النيجيري ومستثمرا رئيسيا في البنية التحتية الطاقية في نيجريا. وتهدف هذه الزيارة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية، لا سيما من خلال دعم المشاريع في قطاعات النفط والغاز والطاقة المتجددة.

وإلى جانب الهيدروكربونات، تهتم الصين بإمكانات نيجيريا كسوق لمنتجاتها المصنعة وتقنياتها، إذ تحوي نيجريا أكبر تعداد سكني بالقارة بأكثر من 222 ساكن وما يجعلها سوق استهلاكية ضخمة جدا.

وتمثل مشاريع مثل إنشاء المناطق الاقتصادية الخاصة وتمويل السكك الحديدية مثالا واضحا على هذا الطموح. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات، بما في ذلك تقلبات سوق النفط والتوترات الاجتماعية والسياسية الداخلية في نيجيريا. وتعبر الزيارة عن نية الصين تعزيز قدرتها على الوصول إلى الموارد الاستراتيجية مع تنويع تعاونها الاقتصادي. ومن جانبها، تنظر نيجيريا إلى بكين باعتبارها شريكا موثوقا به لتحديث بنيتها التحتية وتحفيز نموها الاقتصادي، حتى مع بقاء المخاوف بشأن الديون واختلال التوازن التجاري.

المشاريع والتمويل:

 على الرغم من الانخفاض الملحوظ في الإقراض الصيني منذ جائحة كوفيد-19، تظل الصين لاعبا اقتصاديا رئيسيا في أفريقيا. ويتجلى التزام بكين في مبادرات محددة مثل تخصيص 50 مليون دولار لمشاريع محددة في الكونغو. وتأتي هذه المشاريع في إطار استراتيجية تهدف إلى الحفاظ على نفوذها، في حين تستجيب للانتقادات المتزايدة المرتبطة بالديون الأفريقية. وتركز بكين الآن على الاستثمارات الأكثر استراتيجية، مفضلة المشاريع المتواضعة ولكن الرمزية للغاية ذات التأثير الاقتصادي والاجتماعي القوي. ويشمل ذلك تحديث البنية التحتية، وتطوير الطاقة، ومبادرات التعليم والصحة العامة. ويوضح هذا النهج استعداد الصين لإعادة تموضعها كشريك في التنمية، مع التركيز على التعاون ذي المنفعة المتبادلة. لكن هذه السياسة تثير تساؤلات، خاصة فيما يتصل بفعالية المشاريع الممولة ومساهمتها في النمو المستدام للبلدان المستفيدة. ويشير المنتقدون أيضا إلى الحاجة إلى مزيد من الشفافية في الاتفاقيات الثنائية. ومن خلال التكيف مع الحقائق الاقتصادية بعد الوباء، تسعى الصين إلى معالجة هذه المخاوف مع تعزيز صورتها كشريك موثوق به، قادر على تلبية احتياجات الدول الأفريقية التي تمر بمرحلة تحول اقتصادي.

المساعدات العسكرية :

 ويعد التدخل العسكري الصيني في أفريقيا جزءا من استراتيجية شاملة تهدف إلى تعزيز الأمن والاستقرار في القارة. ومن خلال تدريب نحو 6 آلاف جندي أفريقي وتوفير الدعم اللوجستي، تعمل بكين على ترسيخ مكانتها كشريك استراتيجي أساسي للعديد من الدول الأفريقية التي تواجه تحديات أمنية متزايدة. ويتضمن هذا الالتزام برامج تدريبية للقوات المسلحة المحلية، وتوفير المعدات العسكرية، والدعم الفني في سياق بعثات حفظ السلام. ومن خلال الاستثمار في بناء القدرات العسكرية الأفريقية، تسعى الصين إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي بما يخدم مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية. ومع ذلك، فإن هذا الالتزام العسكري لا يخلو من الانتقادات. ويتهم بعض المراقبين بكين باستغلال هذه المبادرات لزيادة نفوذها الاستراتيجي، وخاصة في المناطق الغنية بالموارد الطبيعية. وعلاوة على ذلك، فإن هذه المساعدات قد تؤدي إلى تفاقم التوترات المحلية إذا لم تكن متوازنة ومتكيفة مع الواقع السياسي والاجتماعي لكل بلد. ورغم هذه التحديات، فإن نهج الصين يوضح استعدادها للعب دور نشط في الأمن الأفريقي، وبالتالي تعزيز صورتها كقوة عالمية ملتزمة بحل القضايا المعقدة في القارة.

المنافسة العالمية :

ويأتي صعود الصين في أفريقيا وسط تنافس متزايد مع القوى الغربية. إن البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية، والتي تأثرت تاريخيا ببلدان مثل فرنسا، أصبحت الآن في قلب هذه المنافسة العالمية. وتعمل بكين على تكثيف جهودها لتأكيد وجودها هناك، مستغلة إحباط السكان المحليين تجاه القوى الاستعمارية السابقة. وتتمثل هذه الديناميكية في تعزيز الشراكات الاقتصادية والاستراتيجية، والتركيز على مشاريع البنية التحتية، واتفاقيات التجارة المفيدة، والتعاون العسكري المتزايد. وتعمل الصين على تعزيز مبدأ عدم التدخل، مما يجذب العديد من الدول الأفريقية التي تسعى إلى الهروب من الاشتراطات التي تفرضها المؤسسات الغربية. ومع ذلك، فإن هذا الحضور المتزايد يغذي المناقشات حول النفوذ الصيني، والذي يُنظر إليه في بعض الأحيان على أنه شكل جديد من أشكال الاعتماد. وتتزايد حدة التنافسات الجيوسياسية أيضًا على الصعيد الاقتصادي، وخاصة في قطاعي الطاقة والتعدين الاستراتيجيين. وفي أفريقيا، لا تسعى الصين إلى تأمين الموارد الحيوية لتنميتها فحسب، بل وأيضاً إلى إظهار قدرتها على تقديم بديل للنموذج الغربي. تسلط هذه المسابقة الضوء على التحولات العميقة في المشهد الجيوسياسي الأفريقي والاختيارات المعقدة التي يتعين على دول القارة مواجهتها.

الديون الأفريقية :

 لقد ساهمت القروض الصينية بشكل كبير في تطوير البنية التحتية في أفريقيا، ولكنها أدت أيضا إلى تأجيج المخاوف المتزايدة بشأن الديون. والآن تجد العديد من البلدان الأفريقية، التي اجتذبتها شروط التمويل المرنة نسبيا في الصين، نفسها في مواجهة ديون يصعب إدارتها. وتتضمن استراتيجية الصين، التي غالبا ما يطلق عليها “دبلوماسية الديون”، تمويل مشاريع طموحة مثل الموانئ والسكك الحديدية والسدود، مع بنود لا تترك سوى مجال ضئيل للمناورة للدول المقترضة. وقد أدى هذا الوضع في بعض الأحيان إلى الاستيلاء على أصول استراتيجية، كما كان الحال مع ميناء هامبانتوتا في سريلانكا، وهو السيناريو الذي يخشى البعض أن يتكرر في أفريقيا. لكن بكين تقول إن القروض تهدف إلى تعزيز التنمية ذات المنفعة المتبادلة، وتصر على أنها منفتحة على إعادة هيكلة أو إلغاء بعض الديون. وتسلط قضية الديون الضوء على معضلة: كيف يمكن الاستفادة من الاستثمارات الصينية مع تجنب مخاطر الاعتماد المالي المفرط؟ وتدعو هذه القضية الحكومات الأفريقية إلى اتباع نهج أكثر حذرا وشفافية في مفاوضاتها مع الصين.

الخاتمة:

إن الجولة الأفريقية السنوية التي تقوم بها الصين منذ 35 سنة دون انقطاع، تظهر التزامها الاستراتيجي تجاه القارة التي تشكل أهمية أساسية لطموحاتها العالمية بإفريقيا. ومن خلال تعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية، تؤكد بكين نفسها كلاعب رئيسي في التنمية الأفريقية. وتعكس الزيارات المستهدفة إلى ناميبيا والكونغو برازافيل وتشاد ونيجيريا عن نهج متنوع، يتراوح من استغلال الموارد الطبيعية إلى التعاون الأمني. لكن هذا الحضور المتزايد يثير تساؤلات حول مديونية البلدان الأفريقية وسيادتها الاقتصادية. وفي مواجهة المنافسة مع القوى الغربية، تعمل الصين على تعديل استراتيجياتها، وتفضل المشاريع المستهدفة والمستدامة. تعكس هذه الاستراتيجية شراكة في التحول، وتتميز بالطموحات المتبادلة ولكن أيضا بالتحديات المعقدة.

تحليلات المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)
المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى