حدث وتعليق

يوم الإبادة في ناميبيا: ذاكرة رسمية وعدالة غائبة

أعلنت جمهورية ناميبيا عن تخصيص يوم 28 مايو من كل عام لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية التي ارتكبتها سلطات الاستعمار الألماني بين عامي 1904 و1908 بحق شعبي الأوفاهيريرو والناما، في واحدة من أكثر الجرائم الاستعمارية وحشيةً في التاريخ الحديث، والتي تُوصف بحق بأنها أول إبادة جماعية في القرن العشرين.

هذه الخطوة، التي جاءت بعد سنوات من الحراك المدني والمطالبات المستمرة بالاعتراف والاعتذار والتعويض، تمثل لحظة فاصلة في إعادة الاعتبار لذاكرة جماعية طال تهميشها، وتفتح الباب أمام أسئلة مؤجلة تتعلق بمسؤولية الدولة الألمانية، وبقدرة النظام الدولي على التعامل الجاد مع جرائم الحقبة الاستعمارية.

لكن رغم الرمزية العالية لهذا الإعلان، فإن أبعاده تتجاوز الاعتراف الرسمي إلى قضايا أكثر جوهرية، تتصل بالعدالة التاريخية، واستعادة السيادة، ومحاسبة الإمبراطوريات السابقة على ما خلّفته من أنقاض إنسانية واقتصادية.

كما أن الموقف الألماني الذي اكتفى بعرض “مساعدات تنموية” دون الإقرار بالتعويض أو تقديم اعتذار رسمي، يعكس استمرار الذهنية الاستعمارية في صورة جديدة. في ضوء ذلك، يرى المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) أنّ هذا الحدث يستدعي تسليط الضوء على أربعة قضايا مركزية، وهي:

  1. ضرورة الانتقال من الاعتراف الرمزي إلى استعادة الحقوق.
  2. محورية الأرض والثروة في أي مسار حقيقي للعدالة.
  3. أزمة مصداقية الخطاب الغربي في قضايا حقوق الإنسان والعدالة الدولية.
  4. التعويض وجبر الضرر
  5. الاعتراف الرمزي لا يغني عن العدالة الترميمية

يُعد إعلان يوم رسمي لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية في ناميبيا خطوة ذات أهمية رمزية كبيرة، تُسهم في إعادة الاعتبار لضحايا قُتلوا مرتين: مرةً بالسلاح، ومرة بالنسيان. لكن هذا النوع من الاعترافات، رغم قيمته الأخلاقية، لا يرقى إلى مستوى العدالة الترميمية المطلوبة في مثل هذه القضايا، ما لم يُترجم إلى التزامات قانونية ملموسة تعترف بالمسؤولية وتتحمل نتائجها.

العرض الألماني الذي قُدم عام 2021، والذي تضمّن دعمًا تنمويًا بقيمة 1.1 مليار يورو على مدى 30 عامًا، دون أن يتضمن اعتذارًا رسميًا أو تعويضًا قانونيًا، يعكس إخفاقًا في استيعاب حقيقة الضرر التاريخي، ويمثّل تجاوزًا لحق الضحايا وأحفادهم في المشاركة في صياغة الحل. فالعدالة، حين تُفرض من أعلى، تصبح امتدادًا للعقلية الاستعمارية ذاتها.

1. الأرض والثروة… جوهر المأساة وجوهر الحل

الإبادة الجماعية في ناميبيا لم تكن فقط جريمة ضد الإنسانية؛ بل كانت وسيلة لإعادة هندسة ملكية الأرض، وتركيبة الثروة، وهيكلة السلطة لصالح المستعمر. فقد انتُزعت الأراضي الخصبة، وسُرقت قطعان الماشية، وتم تفكيك النُظم الاجتماعية والإنتاجية التي اعتمدت عليها المجتمعات المحلية. حتى اليوم، ما زالت أجزاء واسعة من تلك الأراضي بيد المستوطنين الألمان أو النخب المتحالفة معهم.

لذلك، فإن أيّ عدالة حقيقية لا بُدّ أنْ تشمل ملف استرداد الأراضي وإصلاح السياسات العقارية، فضلًا عن الاعتراف بالخسائر الاقتصادية والثقافية التي لحقت بالمجتمعات المستهدفة. فالمطالبة بالتعويض المالي وحده دون معالجة البنية الاقتصادية المختلّة هو إعادة إنتاج لنظام السيطرة، بصيغة جديدة.

2. العدالة الانتقائية تقوّض مصداقية النظام الدولي

إنّ تردد ألمانيا في الاعتراف الكامل بالإبادة التي ارتكبتها على الأراضي الناميبية، وامتناعها عن استخدام مصطلحات قانونية واضحة مثل “التعويض” و”الاعتذار الرسمي“، يعكس مفارقة صارخة في تعامل القوى الكبرى مع قضايا العدالة في إفريقيا.

3. أهمية جبر الضرر والتعويض:

ترتفع اليوم أصوات الناميبيين بأن الإبادة التي ارتكبت في حقهم لا يكفي الاعتذار عنها بل يوجب التعويض وجبر الضرر الذي وقع عليهم واثر على الأجيال اللاحقة واتساقا مع شعار الاتحاد الإفريقي لعام 2025، التعويض وجبر الضرر التي تسبب فيها الاستعمار فإن المعالجة الموضوعية تقتضي عدم تجاهل هذا الجانب.

فقد شهدنا مواقف مشابهة في حالات متعددة داخل القارة، حيث يتم التعامل مع الانتهاكات الاستعمارية كملفات رمزية، تُطوى بأشكال شكلية من دون أي التزامات قانونية أو إصلاحات هيكلية حقيقية.

هذا النمط من العدالة الانتقائية لا يكتفي بتأجيل الحقوق؛ بل يُقوّض الثقة الإفريقية في النظام الدولي ومؤسساته القانونية. فبينما تُفعّل آليات المحاسبة في بعض القضايا الإفريقية بمنطق الإدانة والعقوبات، تُمنح الحصانة الضمنية في قضايا الاستعمار الأوروبي القديم، مما يعيد إنتاج اختلال ميزان العدالة على أسس استعمارية محدثة.

إنّ إفريقيا لا تحتاج إلى “عدالة مشروطة” أو “اعترافات انتقائية”، بل إلى نظام قانوني وأخلاقي عالمي يعترف بجرائم الماضي كما هي، ويمنح الضحايا حقّهم الكامل في تقرير ما يُشكل لهم إنصافًا حقيقيًا، لا ما يُقدّر من عواصم القرار.

خاتمة

إن إعلان يوم وطني لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية في ناميبيا يمثل خطوة بالغة الأهمية في استعادة الذاكرة الإفريقية، لكنه في حد ذاته لا يُمثل نهاية الطريق نحو العدالة، بل بدايته. فالقضية ليست مجرد صفحة دامية في التاريخ، بل منظومة ظلم لا تزال آثارها قائمة في التوزيع غير العادل للثروة والأرض، وفي الغياب المزمن للمساءلة القانونية الدولية.

وعليه، يمكن القول أنّ العدالة التاريخية لا تُقاس بالنوايا ولا تُنجز بالتصريحات، بل تتحقق من خلال التزام سياسي وأخلاقي حقيقي يتضمن الاعتراف، والتعويض، والاسترداد، وإشراك المجتمعات المتضررة في صياغة مستقبلها.

كما يجب أن تكون هذه السابقة الناميبية محفزًا لإفريقيا كلها، لتوحيد جهودها في المطالبة بمساءلة استعمارية عادلة، تُعيد ترتيب العلاقة مع التاريخ، وتؤسس لمستقبل قائم على السيادة والكرامة لا على الرمزية الفارغة.

مصدر الخبر: Namibia to mark German colonial genocide for first time with memorial day
تحليلات المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)

أفروبوليسي

المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي) مؤسسة مستقلة تقدم دراسات وأبحاثاً حول القضايا الأفريقية لدعم صناع القرار بمعرفة دقيقة وموثوقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى